قال الله تعالى: "وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يك كاذباً فعليه كذبه وإن يك صادقاً يصبكم بعض الذي يعدكم إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب•
يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما اهديكم إلا سبيل الرشاد•
وقال الذي آمن يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب• مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم وما الله يريد ظلماً للعباد•
ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد•
يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم ومن يضلل الله فما له من هاد•
ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولاً كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب•
الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتاً عند الله وعند الذين آمنوا كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار•
وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحاً لعلي أبلغ الأسباب•
أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذباً وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل وما كيد فرعون إلا في تباب•
وقال الذي آمن يا قوم اتَّبعونِ أهدكم سبيل الرشاد•
يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار•
من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ومن عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها فيها بغير حساب•
ويا قوم مالي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار•
تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار•
لا جرم أنما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة وأن مردنا إلى الله وأن المسرفين هم أصحاب النار•
فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد•
فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب" غافر: [28 ـ 45]
وقد سبق تلك الآيات الكريمة قول الله تعالى "وقال موسى إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب" قال موسى ذلك عندما أراد فرعون قتله وعندما استعاذ موسى بالله فبعث الله سبحانه وتعالى إنساناً أجنبياً يدافع عنه ويحاول إزالة الشر عنه وقد اختلف في ذلك على الرجل الذي كان من آل فرعون فقيل إنه كان ابن عم له، وكان جارياً مجرى ولي العهد ومجرى صاحب الشرطة، وقيل كان قبطياً من آل فرعون وما كان من أقاربه وقيل أنه كان من بني إسرائيل.
وقد ذكر ذلك المؤمن أن الإقدام على قتل من يقول ربي الله غير جائز وهي حجة مذكورة على طريقة التقسيم، فقال إن كان هذا الرجل كاذباً كان وبال كذبه عائداً عليه فاتركوه وإن كان صادقاً يصبكم بعض الذي يعدكم، فعلى التقديرين كان الأولى إبقاؤه حياً. وتقدير الكلام أن يقال أنه لا حاجة بكم ـ لدفع شره ـ إلى قتله بل يكفيكم أن تمنعوه من إظهار هذه المقالة ثم تتركوا قتله فإن كان كاذباً حينئذ لا يعود ضرره إلا عليه، وإن يك صادقاً انتفعتم به وقد حكى الله تعالى عن ذلك المؤمن أنه كان يكتم إيمانه والذي يكتم كيف يمكنه أن يذكر هذه الكلمات مع فرعون؟
ولهذا السبب حصل هنا قولان:
القول الأول: أن فرعون لما قال "ذروني أقتل موسى" لم يصرح ذلك المؤمن بأنه على دين موسى بل أوهم أنه مع فرعون وعلى دينه إلا أنه زعم أن المصلحة تقتضي ترك قتل موسى لأنه لم يصدر عنه إلا أن دعا إلى الله وأتى بالمعجزات الباهرة وهذا لا يوجب القتل، والإقدام على قتله يوجب الوقوع باقي الكلمات بل الأولى أن يؤخر قتله وأن يمنعه من إظهار دينه لأنه على هذا التقدير إن كان كاذباً كان وبال كذبه عائداً إليه، وإن كان صادقاً حصل الانتفاع به من كل الوجوه.
ثم أكد ذلك بقوله تعالى "إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب" يعني أنه إن صدق فيما يدعيه من إثبات الإله القادر الحكيم فهو لا يهدي المسرف الكذاب فأوهم فرعون أنه أراد بقوله تعالى "إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب" أنه يريد موسى وهو إنما كان يقصد به فرعون لا موسى فالمسرف الكذاب هو فرعون.
القول الثاني: أن مؤمن آل فرعون كان يكتم إيمانه أولاً، فلما قال فرعون "ذروني أقتل موسى" أزال الكتمان وأظهر كونه على دين موسى وشافه فرعون بالحق. وقد ذكر المفسرون في تفسير قوله تعالى "لعلي أبلغ الأسباب • أسباب السموات" أن المراد بأسباب السموات طرقها وأبوابها وما يؤدي إليها وكل ما أدرى إلى شيء فهو سبب كالرشاد ونحوه والمقصود بـ "الصرح" هو البناء الظاهر الذي لا يخفى على الناظر وإن بعد، اشتقوه من صرح الشيء أي ظهر وأسباب السموات "طرقها".
وبعدما حكى الله تعالى عن فرعون هذه القصة قال بعدها "وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل" وقد قرأ البعض "صد" بضم الصاد والبعض الآخر "صد" بفتحها مما يدل على أنه منع الناس عن الإيمان. والآيات (38 ـ 45) من بقية كلام الذي آمن من آل فرعون وكان يدعوهم إلى الإيمان بموسى والتمسك بطريقته، واعلم أنه نادى في قومه ثلاث مرات في المرة الأولى دعاهم إلى قبول ذلك الدين على سبيل الإجمال، وفي المرتين الباقيتين على سبيل التفصيل، أما الإجمال فهو قوله "يا قوم اتبعوني أهدكم سبيل الرشاد" وليس المراد بقوله تعالى "اتبعوني" طريقة التقليد لأنه قال بعده "أهدكم سبيل الرشاد" والهدى هو الدلالة ومن بين الأدلة للغير يوصف بأنه هداه، وسبيل الرشاد هو سبيل الثواب والخير وما يؤدي إليه، لأن الرشاد نقيض الغي وفيه تصريح بأن ما عليه فرعون وقومه هو سبيل الغي.
وأما التفصيل فهو بين حقارة حال الدنيا وكمال حال الآخرة أما حقارة الدنيا ففي قوله تعالى "يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاّع" والمعنى أنه يستمتع بهذه الحياة في أيام قليلة ثم تنقطع وتزول، وأما الآخرة فهي دار القرار والبقاء والدوام وحاصل الكلام أن الآخرة باقية ودائمة والدنيا منقضية منقرضة والدائم خير من المنقضي. ثم إنه تعالى لما بين أن جزاء السيئة مقصور على المثل بين أن جزاء الحسنة غير مقصور على المثل بل هو خال عن الحساب فقال تعالى "من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب" وهنا يقول البعض أنه من عمل صالحاً واحداً من الصالحات فإنه يدخل الجنة ويرزق فيها بغير حساب والآتي بالإيمان والمواظب على التوجيه والتقديس مدة ثمانين سنة قد أتى بأعظم الصالحات وبأحسن الطاعات فوجب أن يدخل الجنة ويرى المعتزلة أن مرتكب الكبيرة غير مؤمن فلا يدخل الجنة.
واختلف في تفسير قوله تعالى "يرزقون فيها بغير حساب" فمنهم من قال لما كان لا نهاية لذلك الثواب قيل بغير حساب وقال الآخرون لأنه تعالى يعطيهم ثواب أعمالهم ويضم إلى ذلك الثواب من أقسام التفضل ما يخرج عن الحساب وقوله تعالى واقع في "إلا مثلها" يعني أن جزاء السيئة له حساب وتقدير لئلا يزيد عن الاستحقاق فأما جزاء العمل الصالح فبغير تقدير وحساب بل ما شئت من الزيادة على الحق والكثرة والسعة.
ثم استأنف ذلك المؤمن ونادى في المرة الثالثة وقال "يا قوم مالي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار" يعني أنا أدعوكم إلى الإيمان الذي يوجب النجاة وتدعونني إلى الكفر الذي يوجب النار، ولما ذكر ذلك المؤمن أنه يدعوهم إلى النجاة وهم يدعونه إلى النار فسر ذلك بأنهم يدعونه إلى الكفر بالله وإلى الشرك به، أما الكفر بالله فلأن الأكثرين من قوم فرعون كانوا ينكرون وجود الله ومنهم من كان يقر بوجود الله إلا أنه كان يثبت عبادة الأصنام.
وقوله تعالى "وأشرك به ما ليس لي به علم" المراد بنفي العلم نفي المعلوم كأنه قال وأشرك به ما ليس بإله وما ليس بإله كيف يعقل جعله شريكاً للإله، ولما بين أنهم يدعونه إلى الكفر والشرك بين أنه يدعوهم إلى الإيمان بالعزيز الغفار فقوله تعالى "العزيز" إشارة إلى كونه كامل القدرة وفيه تنبيه على أن الإله هو الذي يكون كامل القدرة أما فرعون فهو في غاية العجز فكيف يكون إلهاً؟ وأما الأصنام فإنها أحجار منحوتة فكيف يعقل القوم بأنها آلهة؟ ولما بالغ مؤمن آل فرعون في شرح أدلته ختم كلامه بخاتمة لطيفة فقال تعالى "فستذكرون ما أقول لكم" وهذا الكلام مبهم يحتمل أن يكون المراد أن هذا الذكر يحصل في الدنيا وهو وقت الموت وأن يكون في القيامة وقت مشاهدة الأهوال وبالجملة فهو تحذير شديد.
ثم قال تعالى "وأفوض أمري إلى الله" وهذا كلام من هدد بأمر يخافه فكأنهم خوفوه بالقتل وهو أيضاً خوفهم بقوله تعالى "فستذكرون ما أقول لكم". ثم قال تعالى "إن الله بصير بالعباد" أي عالم بأحوالهم وبمقادير حاجاتهم وهنا آخر كلام مؤمن آل فرعون. ثم قال تعالى "فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب" لما بين الله تعالى أن ذلك الرجل لم يقصر في تقدير الدين الحق وفي الذود عنه فالله تعالى رد عنه كيد الكافرين وقصد القاصدين وقوله تعالى "فوقاه الله سيئات ما مكروا" يدل على أنه لما صرح بتقرير الحق فقد قصدوه بنوع من أنواع السوء.
فقال مقاتل لما ذكر هذه الكلمات قصدوا قتله فهرب منهم إلى الجبل فطلبوه فلم يقدروا عليه، وقال تعالى "وحاق بآل فرعون" أي أحاط بهم "سوء العذاب" أي أغرقوا في البحر وقيل المراد به النار المذكورة في قوله تعالى "النار يعرضون عليها".
ثالثاً: المضامين التربوية في تلك القصة: حفلت قصة مؤمن آل فرعون بالكثير من القيم التربوية التي نشير إلى بعضها فيما يلي:
أولاً: حرص الفرد على صالح جماعته التي ينتمي إليها: توضح تلك القصة مدى حرص مؤمن آل فرعون على ما فيه صالح قومه وخوفه الشديد عليهم من أن يتمادوا في تكذيبهم لموسى عليه السلام ومحاربتهم لدعوته ومساندتهم لفرعون وتصديقه إياه فيما يدعيه من ألوهية ويتضح ذلك الحرص في أكثر من موطن فنجده في قوله تعالى "يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب" [غاقر: 30] وأيضاً في قوله تعالى "ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد" [غافر: 32].
وهذا دليل على حرص ذلك الرجل على قومه من أن يحل بهم عذاب الله أو ينزل عليهم سخطه. وتتمثل الثمرة التربوية من هذا المضمون في ضرورة حرص الفرد على صالح جماعته التي ينتمي إليها لأن في هذا الحرص دليل الانتماء الصادق فعلى كل فرد أن يحاول جاهداً تصحيح مسار جماعته لما فيه خيرها وخيره وأن يحرص دائماً على ما فيه صالحها وعليه أن يواجه ما قد يصادفه من معارضة نتيجة لعدم إدراكهم الجيد لمجريات الأمور بالحوار والإقناع كما فعل مؤمن آل فرعون مع قومه، ولنا في رسول الله أسوة حسنة في الصبر على قومه حين قال "اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون".
ثانياً: الاعتبار مما حدث للآخرين: فيتضح من هذه القصة استعادة مؤمن آل فرعون ما حدث للأمم السابقة ـ نتيجة تكذيبهم الرسل وتماديهم في الكفر ـ في هداية قومه فذكرهم بما حدث لكل من قوم نوح وقوم عاد وقوم ثمود، ويسوق الباحث الآيات التالية التي توضح ما حدث لتلك الأمم، فقد أغرق الله قوم نوح فقال تعالى "مما خطيئاتهم أغرقوا فادخلوا ناراً فلم يجدوا لهم من دون الله أنصاراً" [نوح: 25] أما ثمود فقال الله فيهم "فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية" [الحاقة: 5].
وأما عاد فقال فيهم "وأما عاد فأهلكوا بريح صرير عاتية" [الحاقة: 6] وعليه فإن مؤمن آل فرعون يريد من قومه أن يعتبروا بما حدث للأمم السابقة وألا يقعوا في مثل أخطائهم من التكذيب والعناد لأن الله تعالى قادر على أن ينزل عقابه بهم كما فعل مع سابقيهم. وتتمثل الثمرة التربوية هنا في ضرورة اعتبار الأفراد بما يحدث للأمم الأخرى أو الأفراد الآخرين فلا تتكرر نفس الأخطاء التي أدت إلى هلاك الآخرين وإلحاق الضرر بهم وهذا يتطلب ضرورة دراسة التاريخ دراسة واعية حتى نستقي منه العبر ونحتاط لأنفسنا حتى لا نقع في محظور وقع فيه غيرنا فالقاعدة أن نبدأ من حيث انتهى الآخرون وليس من حيث بدأ الآخرون.
ثالثاً: الشورى في الرأي ونبذ الاستبداد به: حيث توضح هذه القصة محاولة فرعون في قتل موسى ويظهر هذا في قول الله تعالى "قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد" فهو يتصور ـ وهذه وجهة نظره التي يحاول فرضها على الجميع ـ أن في قتل موسى طريق الرشاد والهداية لقومه.
وتكمن الثمرة التربوية هنا في ضرورة أن يكون الأمر شورى بين أفراد الجماعة وألا ينفرد شخص معين باتخاذ قرارات تخص جماعة معينة دون التشاور معها وألا يحكم فرد ما بأن ما يراه هو الصواب دائماً ولكن لابد من الإيمان بأن رأينا صواب يحتمل الخطأ ورأى الآخرين خطأ يحتمل الصواب وبالتالي فلابد من نبذ الاستبداد في الرأى وتبني الشورى والديمقراطية وفي ذلك قال الشاعر:
رأي الجماعة لا تشقى البلاد به رغم الخلاف ورأي الفرد يشقيها
رابعاً: ضرورة الاستناد إلى العلم في المحاورة والنقاش: أوضحت الآيات في هذه القصة أن الذين يجادلون في آيات الله بغير حجة ولا علم يصيبهم مقت الله وخزيه ونجد ذلك في قول الله تعالى "الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتاً عند الله وعند الذين آمنوا" [غافر: 35].
وتتمثل الثمرة التربوية في هذا المضمون في ضرورة الاستناد إلى العلم والحقائق العلمية في الحوار والمناقشة وألا يفتي الفرد بغير علم كالذابح بغير سكين وأن الذي يستند في مناقشاته إلى الحقائق العلمية يكون أكثر قدرة على إقناع الآخرين من ذلك الذي يجادل بغير علم.
خامساً: عدم الاعتماد على الحواس وحدها في اكتساب المعارف: يتضح من خلال هذه القصة أن فرعون عندما أراد أن يتأكد من قول موسى عليه السلام بوجود إله اعتقد أن هذا الإله يوجد في السماء فأراد أن يتأكد بحاسة البصر من هذا الإله موجود فطلب من وزيره أن يبني له بناءً عظيماً في ارتفاعه حتى يصعد عليه ليصل إلى هذا الإله ويتضح ذلك في قول الله تعالى "وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحاً لعلي أبلغ الأسباب • أسباب السموات فأطلع إلى إله موسى" وورد ذلك في سورة القصص في قوله تعالى "فاوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحاً لعلي أطلع إلى إله موسى" [القصص: 83].
وتتمثل الثمرة التربوية في هذا المضمون في عدم الاقتصار على الحواس وحدها في اكتساب المعرفة ذلك لأن هناك وسائل أخرى لاكتساب المعرفة غير الحواس فهناك العقل، الحدس، الإلهام، الإخبار عن طريق الغير فلا يعني عدم قدرتنا على إدراك وجود الله عن طريق حاسة البصر أن الله سبحانه وتعالى غير موجود فهو موجود بالفعل ولكن لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير.
سادساً: الزهد في الدنيا والترغيب في الآخرة: يتضح أيضاً من حديث مؤمن آل فرعون إلى قومه حرصه على أن يظهر لهم حقارة الدنيا وأنها فانية وزائلة وأن الآخرة هي الباقية فلا ينبغي أن يشتروا الفانية ويبيعوا الباقية ويتضح ذلك في قوله تعالى: "يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار" [غافر: 93].
ولقد قال بعض العارفين: "لو كانت الدنيا ذهباً فانياً وكانت الآخرة فضة باقية لكانت الآخرة أفضل". وتتمثل الثمرة التربوية في هذا المضمون في ضرورة الزهد في الدنيا والترغيب في الآخرة فلا ينبغي أن تكون الدنيا هي أكبر همنا ومبلغ علمنا لأن الحرص على الدنيا والانغماس في شهواتها وملذاتها والطلب الدائم لنعيمها الفاني والجري وراء زخرفها الزائل كل هذا يباعد بين الإنسان وربه، وينسيه آخرته فلا يراقب الله في أعماله، ولا يبالي من أي طريق يكسب المال الذي يساعده على الاستمتاع بالدنيا وكل هذا يؤثر تأثيراً سلبياً في المجتمع حيث يتحول إلى مجتمع مادي تختفي فيه الروحانية وتنتشر فيه الأنانية وحب النفس وينسى الناس ربهم فينسيهم أنفسهم.
سابعاً: استخدام العقل في المفاضلة بين الأشياء: وذلك ما توضحه هذه القصة في محاولة مؤمن آل فرعون إظهار الفارق بين الدنيا الفانية والآخرة الباقية وبين جزاء من يعمل الصالحات وجزاء من يعمل السيئات وبين دعوته إياهم إلى عبادة الله والإىمان به وهذا ما يؤدي بهم إلى الجنة وبين دعوتهم إياه للكفر بالله وهذا ما يؤدي به وبهم إلى النار. وتتمثل الثمرة التربوية في هذا المضمون في ضرورة تحكيم العقل في المفاضلة بين الأشياء والأمور وأن تخضع الأشياء للتحليل والوقوف على المزايا والعيوب بطريقة موضوعية حتى نحسن الاختيار وألا يقع اختيارنا على شيء ثم نعود ونندم حيث لا ينفع الندم.
ثامناً: اللجوء إلى الله وقت الشدة: فعندما قال ذلك الرجل المؤمن ما قال لقومه خوفوه بالقتل وهنا لم يجد ملجأً إلا الله فقال: "وأفوض أمري إلى الله" [غافر: 44] وبالفعل فقد نجاه الله من كيدهم فقال تعالى "فوقاه الله سيئات ما مكروا" [غافر: 45]. وتتمثل الثمرة التربوية في هذا المضمون في ضرورة الاستعانة بالله في وقت الشدة لأنه هو وحده القادر على كشف الضر، ورفع البلاء فهو القائل في كتابه العزيز "أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء" وهذا يطلب أن يكون الفرد دائماً في كنف الله تعالى وبالتالي يكون الله تعالى دائماً معه ومن كان الله معه فمن عليه.
تاسعاً: الجرأة في الحق: وذلك يظهر جلياً في القصة كاملة فذلك الرجل المؤمن لم يأبه بفرعون وجبروته وعشيرته وأعوانه ولم يثنه تهديد فرعون لموسى بالقتل من أن يدافع عن الحق بكل جرأة وبكل شجاعة لا يخشى في الله لومة لائم أو جبروت طاغية أو كثرة ظالمة أو أن يراد به مثلما أراد فرعون بموسى.
وعليه فإن الثمرة التربوية هنا تتمثل في نبذ الجبن والدفاع عن الحق وعدم منافقة الحكام أو رؤساء العمل أو أن نعين ظالماً على ظلمه خوفاً من بأسه وجبروته وأن نكون دائماً في جانب الحق مهما كانت النتائج. وبهذا نكون قد توصلنا إلى الإجابة عن التساؤل الرئيس للبحث حيث تبين أن المضامين التربوية في قصة مؤمن آل فرعون تتلخص في:
1 ـ حرص الفرد على صالح جماعته التي ينتمي إليها.
2 ـ الاعتبار بما يحدث للآخرين• 3 ـ الشورى في الرأي ونبذ الاستبداد به.
4 ـ ضرورة الاستناد إلى العلم في المحاورة والنقاش.
5 ـ عدم الاعتماد على الحواس وحدها في اكتساب المعارف.
6 ـ الزهد في الدنيا والترغيب في الآخرة.
7 ـ استخدام العقل في المفاضلة بين الأشياء.
8 ـ اللجوء إلى الله وقت الشدة.
9 ـ الجرأة في الحق.
الآراء