الاختلاف سنة ربانية وحقيقة كونية لا يمكن إنكارها أو المماراة فيها والمجادلة. والاختلاف قائم في الكون بين الحيوانات والنباتات والحشرات والطيور والكواكب والشموس والنجوم والجبال والسهول… إلخ.

وهذا الاختلاف جعل التنوع كأنه لوحة فنية تمزاجت فيها الألوان والرسومات وتناسقت فأخرجت لوحة بديعة فريدة. وقد جعل الله -تعالى- الاختلاف بين البشر في الألوان والأجناس والألسنة آية من آياته، فقال -تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ﴾[الروم: 22]،

ولو شاء الله لجعل لسان العالمين واحدًا، ولونهم واحدًا؛ فرغم أن الأصل واحد؛ إذ إن الكل من آدم وحواء، لكن نشأ عن هذا الأصل الواحد كل هذا التنوع والاختلاف والتعدد؛ فهذا عربي وهذا عجمي، وهذا أبيض وهذا أحمر وهذا أسود، وهذا ذكر وهذه أنثى، وهذا طويل وهذا قصير… إلخ.

والإنسان -هذا العالَم الأصغر- قد يمر بمراحل تطور في حياته، فتختلف أفكاره وآراؤه من مرحلة لأخرى؛ فقد يعتقد أمرًا ما ثم بعد زمن يغير تلك القناعة؛ لطوارئ تطرأ عليه وعلى تفكيره، وقد يأتيه من العلم ما لم يكن عنده قبلاً، فيغير ما كان عليه. فكيف بمن يطرأ عليه الاختلاف في مراحل حياته ألا يقبل الاختلاف عند الآخرين؛ فهو يطلب محالاً من المحالات، لذلك قال -تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾ [هود: 118].

وسنة الاختلاف دليل على الحرية الممنوحة للإنسان في هذه الحياة الدنيا، فلو شاء الله لجعل البشر مثل باقي المخلوقات التي هي مسخرة ومفطورة على الطاعة، لكنه -تعالى- ترك لهم حرية الاختيار في الدنيا، لذا نشأ الاختلاف.

ومن فهم سنة الاختلاف كان مدخل قبول الآخر عنده واسعًا، وليس مطلوبًا لكي تقبل الآخرين أن يتخلوا عن قناعاتهم. وهذا القبول للآخر ينبغي أن يقود إلى التعايش الذي يضمن حقوق الجميع؛ إذ إن الاعتراف بحقيقة التعدد والتنوع في الفضاء الاجتماعي والثقافي، وتوفير مقتضيات ومتطلبات حمايتها، هو الخطوة الأولى في مشروع إنهاء التوترات الاجتماعية، وصيانة الأوضاع الداخلية[1]، والعمل على بناء دولة قوية.

فقبول الآخر ليس عجزًا أو إكراهًا من القوي للضعيف، بل هو فهم للإسلام، وسير على طريق الوسطية؛ حيث لا إفراط ولا تفريط. وهو ليس بضاعة المفلس العاجز، بل هو فهم للحياة وتشابكاتها وصراعاتها واختلافاتها. وهو خروج من (الجيتو) الفكري الذي يضربه البعض حول أنفسهم، بدافع من الخوف، أو بدافع من عدم الذوبان في الآخر، أو بدعوى المحافظة على الذات، وشدة التحرز من الوافد أو مما عند الآخر.

وقبول الآخر والتعامل معه سِيما من يفهم طبيعة المجتمعات، ومن يسعى لإقامة الدول؛ فالمتعصبون تزول دولتهم سريعًا؛ فهم لا يفهمون طبيعة الحياة وطبيعة الدول. والناظر لسيرة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- سيرى كيف أسس رسول الله دولته في المدينة المنورة بالاعتراف بالتنوع العرقي والديني، واجتمع مع الفرقاء على أسس مشتركة. وكان ثمرة ذلك هذا العقد الاجتماعي بينهم (صحيفة المدينة)، والذي يعتبر دستورًا متقدمًا جدًّا مقارنة بالدساتير الحديثة.

قال ابن إسحاق: وكتب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كتابًا بين المهاجرين والأنصار، وادع فيه يهود وعاهدهم وأقرهم على دينهم وأموالهم، وشرط لهم، واشترط عليهم:

بسم الله الرحمن الرحيم

هذا كتاب من محمد النبي -صلى الله عليه وسلم- بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، إنهم أمة واحدة من دون الناس… وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصرين عليهم…

وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.

وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين.

لليهود دينهم وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ[2] إلا نفسه وأهل بيته.

وإن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف.

وإن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف.

وإن ليهود بني ساعدة ما ليهود بني عوف.

وإن ليهود بني جشم مثل ما ليهود بني عوف.

وإن ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف.

وإن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف، إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته.

وإن جفنة بطن من ثعلبة كأنفسهم.

وإن لبني الشطيبة مثل ما ليهود بني عوف.

وإن البر دون الإثم.

وإن موالي ثعلبة كأنفسهم.

وإن بطانة يهود كأنفسهم، وإنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد -صلى الله عليه وسلم.

وإن على اليهود نفقتهم، والنصيحة والبر دون الإثم، وإنه لم يأثم امرؤ بحليفه، وإن النصر للمظلوم, وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.

وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة، وإن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم.

وإنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها.

وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله -عز وجل- وإلى محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم.

وإن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره.

وإن بينهم النصر على من دهم يثرب.

وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه فإنهم يصالحونه ويلبسونه…[3].

وقد استقام رسول الله لأهل هذا الحلف ما استقاموا له، فلما غدر بعضهم وخان عاقبهم على قدر غدرهم وجرمهم.

وبالانتقال إلى الدولة الحديثة سنجد أن قوة أمريكا كانت في تنوعاتها العرقية والدينية، وكيف أنها استفادت من هذه الفسيفساء المجتمعية والفكرية، ونهضت وصارت قوة عظمى.

ولكن يبدو أن الخلل سوف يدخل في أساس هذه الدولة؛ إذ إن ترامب (الرئيس القادم) لا يقبل الآخر، ويهدد ويرعد، ويرغي ويزبد، وهو إنما ينقض غزله من بعد قوة أنكاثًا.

فالتعصب وأحادية الفكر قد يكون في الأحزاب والجماعات، لكن الدول لا يستقيم فيها ذلك، والتعصب وأحادية الفكر ورفض الآخر طريق الضعف والهلاك. ولا تقوم الدول على الإقصاء، بل تقوم على التعاون والاستفادة من الجميع. ولا توجد دولة نقية خالية من التنوع والاختلاف.

وقبول الآخر وتوظيفه من خلال الأطر المشتركة هو عنوان الدول القوية، وإلا فالجلوس بجوار الدول الفاشلة هو النتيجة الحتمية.

مراجعات:

[1] محمد محفوظ: في معنى الاعتراف بالآخر، جريدة الرياض، العدد (15584)، الأربعاء 20 ربيع الأول 1432هـ – 23 فبراير 2011م.

[2] “الوَتَغُ -بالتحريك: الهَلاكُ، وَتِغَ يَوْتَغُ وتَغًا: فسَدَ وهلَكَ وأَثِمَ” [لسان العرب، مادة (وتغ)].

[3] سيرة ابن هشام، (3/32-35) باختصار.

http://islamonline.net/19232