صابر كل عنبري التطورات تتسارع بوتيرة عالية بعد الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي في الثامن من أيار/ مايو الماضي، إذ دشنت الولايات المتحدة الأمريكية مرحلة تصعيد غير مسبوق ضد إيران من خلال طرح خطة "ما بعد الاتفاق: استراتيجية جديدة حول إيران" والمطالب الإثني عشر تضمنتها، قدمها وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو يوم الاثنين الماضي، ثم أعقبتها عقوبات في 24 أيار/ مايو استهدفت شركات طيران مدنية وأشحاصا وكيانات. ما زالت المطالب الأمريكية حديث الساعة في الأوساط الإعلامية والسياسية العالمية والإقليمية، وقيل عنها الكثير. في تحليل هذه المطالبات ينبغي الانتباه أيضا إلى توقيت طرحها إلى جانب مضامينها، حيث أنه جاء في وقت تبذل الترويكا الأوروبية جهودا كثيفة من خلال المفاوضات مع الإيرانيين لإخراج الاتفاق النووي من غرفة الانعاش حيا. هنا استهدف طرح تلك المطالب في هذا التوقيت إافشال الجهود الأوروبية بالدرجة الأولى وقطع الطريق أمامها، أي أن "الكلام لإيران واسمعي يا أوروبا". على ما يبدو، الولايات المتحدة الأمريكية في العصر الترامبي لا ترغب بتبني الطرق الالتفافية والوسطاء، وإنما الطريقة المباشرة كما يحصل هذه الأيام مع كوريا الشمالية. هي تريد اليوم أن تتفرد بكل شيء، فتخرج من جانب واحد من المعاهدات والاتفاقيات الدولية، مثل اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ، واتفاقية باريس للمناخ والاتفاق النووي، وكذلك تفرض حلولا من جانب واحد، مثل الإعلان عن القدس عاصمة لإسرائيل. المطالب الأمريكية الاثني عشر كانت تعجيزية بامتياز، وواشنطن قبل غيرها كانت تعرف أن إيران سترفضها، وتقديمها مرة واحدة وبأعلى سقف يؤكد أنها جاءت لتُرفض وتدفع الإيرانيين إلى تصعيد مماثل، ثم أرادت واشنطن من خلال ذلك إرباك حسابات الأوروبيين والتأكيد لهم أنها لن تقبل بحلول وسط، وأن المطلوب هو إنجاز هذه الشروط لا غيرها، مما يؤكد أن الهدف الأول هو إجهاض الجهود الأوروبية. طبعا هذا إذا لم ننظر إلى تلك الجهود نظرة تشاؤمية، انطلاقا من مقولة "تقسيم الأدوار" بين العواصم الأوروبية وواشنطن، حينئذ سنكون أمام دوافع مختلفة وراء طرح هذه المطالب، تستهدف تخويف طهران ودفعها لتقديم تنازلات للأوروبيين للتوصل إلى اتفاقية أخرى تنقذ الاتفاق النووي وتعيد واشنطن إليه. قال وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو يوم الخميس الماضي في اجتماع لجنة الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكي، إن الولايات المتحدة لا تسعى إلى تغيير النظام الإيراني، إلا أن القاصي والداني يعرف أن تحقيق المطالب الاثني عشر، لا يمكن إلا بتغيير هذا النظام، أو قبوله بتطبيع لا يبقي منه إلا اسم "الجمهورية الإسلامية" دون الهوية والمضمون الذي عرفناه خلال العقود الأربع الماضية، وهذا مستبعد إلى أقصى الحدود. تريد واشنطن الوصول إلى ذلك من خلال حرب اقتصادية شرسة تتبناها كخيار مفضل في الوقت الراهن، ما يعني أن هذه الإدارة وضعت يدها على الخاصرة الرخوة لإيران كما تعتقد، وتريد تحقيق تلك الغاية من خلال تحريض الشارع الإيراني وإشغال الحكومة الإيرانية بالوضع الداخلي على حساب الدور الإقليمي والبرنامج الصاروخي. إيران واجهت التصعيد الأمريكي بدبلوماسية هادئة، وهذا ما تؤكده جملة ردود الفعل التي صدرت من طهران إلى الآن. فرغم حدة نبرة بعض تصريحاتها، إلا أنها نأت عن الطابع التصعيدي، ولم تقرن بأفعال مثل الانسحاب المماثل من الاتفاق النووي. يبدو أن الجمهورية الإسلامية تبتغي من وراء ذلك: أولا، إبداء الطمأنينة وإظهار نفسها غير مرتعبة بالتصعيد الأمريكي، وثانيا، إعطاء الفرصة للمفاوضات مع الترويكا الأوروبية وعدم الرغبة في التأثير عليها سلبا، وثالثا، عزل واشنطن والحيلولة دون تشكيل إجماع عالمي ضدها (إيران)، حيث من شأن تصعيد إيراني مقابل أن يوحد الأوروبيين والأمريكيين على المدى القريب. وتقول مصادر إيرانية إن أحد أهداف الهجمة الأمريكية، هو دفع إيران إلى مسار يريده ترامب، لكي يستثمر ذلك في جهوده في خلق اجماع دولي ضدها. وطهران سعيدة بالشرخ الحاصل بين الحليفين الأمريكي والأوروبي هذه الأيام، لكنها قلقة أيضا من عدم صمود الأوروبيين ورضوخهم للإملاءات والضغوط الأمريكية في نهاية المطاف. لذلك، وبالرغم من تأكيدات أوروبية متكررة، لا تزال تخيم حالة الشكوك وعدم الثقة على مواقف طهران من الموقف الأوروبي الذي لا يرتقي إلى المستوى المطلوب من وجهة النظر الإيرانية، ما جعل المرشد الأعلى للثورة الإسلامية يطرح سبعة شروط أو مطالب على الأوروبيين لمواصلة العمل بالصفقة النووية. في الحقيقة، النقاط السبع التي طرحها المرشد ليست تعجيزية مقارنة بتلك التي وضعها وزير الخارجية الأمريكي، وهي لا تغطي كافة المصالح التي كفلتها الصفقة النووية لإيران، مع ذلك يستبعد أن يمتثل لها الأوروبيون. تقف أوروبا اليوم على مفترق طرق خطير وبين فكي كماشة. فمن جهة، ولأسباب عدة تريد الاحتفاظ بالاتفاق النووي مع إيران، ومن جهة أخرى تتعرض لضغوط أمريكية ومصالحها تتهدد بفعل الإصرار على هذا الاتفاق وإنقاذه. أمام هذا المأزق، على الأرجح سوف تختار أوروبا مصالحها التجارية والأمنية المتشابكة مع الولايات المتحدة الأمريكية، ولا تضحي بها لقاء الاتفاق النووي؛ لأن أثمان إنقاذه مكلفة وباهظة جدا، وهي تستلزم دخول الاتحاد الأوروبي في حرب تجارية على جبهتين، الأولى ضد الولايات المتحدة الأمريكية، والأخرى ضد الشركات الأوروبية لمنعها من الامتثال لعقوبات واشنطن. عليه، وكما قال خلال الأيام الماضية أكثر من مسؤول أوروبي، على رأسهم إيمانوئل ماكرون، فإن أوروبا لن تخوض هذه الحرب التي لم تنتظرها كبرى الشركات الأوروبية، مثل توتال، فأعلنت عن انسحابها القريب من الأسواق الإيرانية. لكن ذلك لا يحول دون مواصلة الأوروبيين جهودهم مع طهران للحفاظ على ما يمكن الحفاظ عليه من الاتفاق النووي، لإرضائها بالبقاء فيه وعدم الانسحاب منه. بالتالي، أكثر ما يمكن أن يفعله الأوروبيون هو الحفاظ على الحد الأدنى من مكاسب طهران، والتي كانت تحصل عليها قبل الانسحاب الأمريكية، من خلال استمرار شراء النفط الإيراني بكميات أقل من قبل، وكذلك استمرار شركات وبنوك أوروبية صغيرة في عملها مع إيران. طبعا، مع التنبيه إلى أن هذا المستوى المتدني من التعاون الأوروبي مع إيران أيضا سيلقى امتعاضا أمريكيا كبيرا، من شأنه أن يعطل مفعول الحرب الاقتصادية التي تنوي الإدارة الأمريكية شنها على طهران التي توعدتها واشنطن بأقسى العقوبات في التاريخ، ما يؤكد أن ما تريده إدارة ترامب تتجاوز إلى حصار اقتصادي خانق؛ نجاحه يتوقف على التماهي الأوروبي أولا، والصيني والروسي ثانيا. أما في ظل الخلافات الجارية بين هذه الأطراف والإدارة الأمريكية، وكذلك على ضوء استمرار طهران في العمل بتعهداتها النووية، فيستبعد أن يكتب لهذا الحصار النجاح في الوقت الحاضر. قبل التوقيع على الاتفاق النووي في حزيران/ يونيو 2015 كان ذلك ممكنا؛ لأن حينئذ تمكن الرئيس الأمريكي باراك أوباما من إيجاد إجماع دولي ضد إيران، أما اليوم علينا أن ننتظر لنرى كيف يمكن للرئيس دونالد ترامب أن يحقق هذا الحصار الخانق بتصرفاته المزعجة للجميع، سواء الأوروبيين أو الصينيين أو الروس، بيد أن إدارته تدرك ذلك جيدا، حيث أن مايك بومبيو في خطابه لمّح إلى تحالف إقليمي يضم إسرائيل ودولا عربية (السعودية والإمارات) ضد طهران، دون أن يأتي على ذكر أي تحالف دولي. لعلّ هذا العامل (أي الحيلولة دون تشكيل تحالف دولي وإفرازاته)، يجعل طهران مترددة في الانسحاب من الاتفاق النووي واستئناف أنشطتها النووية إذا ما تحول إلى اتفاق من جانب واحد، بفعل عدم تجاوب أوروبا مع طلبها المكرر باتخاذ خطوات عملية كافية خلال الفترة المقبلة، تحفظ مصالحها بموجب هذا الاتفاق. وأخيرا، أيا كان الموقف الأوروبي العملي والموقف النهائي الإيراني من الاتفاق النووي، فمواجهة المرحلة المقبلة وتحدياتها الجسام، تفرض على طهران أن تعتمد أولا وأخيرا على نفسها وأوراقها وتحالفاتها الإقليمية، وليس على الأوروبيين أو حتى الروس والصينيين.
الآراء