من أعظم العبادات وأفضل الطاعات وأقرب القربات إلى الله تعالى؛ لأنها تزيد الإيمان وترسخ اليقين, وتجلب الخشية والتعظيم. يقول عامر بن عبد قيس: سمعت عدداً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يقولون: "ضياء الإيمان أو نور الإيمان: التفكر". وقد حثَّ كتاب الله تعالى بشدة على التفكر والتدبر، وقد أحصى بعض العلماء الكلماتِ التي تدعو إلى التفكر في كتاب الله، فوجدوا أن أكثر من (650) آية في القرآن الكريم تحث على التفكر والتدبر والتعقل والنظر والتأمل.. وهل يوجد أعلى وأغلى وأروع من القرآن الكريم مادة للتفكير والتأمل والتدبر، وتركيز الذهن، والتكرار؟ هذا الكتابٌ الذي إذا دخل في القلب تغيَّر الإنسان، وإذا تغيَّر الإنسان تغيَّر العالم, فبهداه تصنع النفوسَ، وتصنع الأمم، وتبنى الحضارات. هذه قدرته.. وهذه طاقته.. فأما أن يُشعَلَ المصباح فلا يرى امرؤ النور لأنّ بصره مغلق، العيبُ عيبُ البصر، وليس عيبَ النور. قال تعالى:

".. قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ" [ 15] يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ[المائده: 16].

فحينما يقبل المؤمن على كتاب الله، يتلوه حق تلاوته، ويسلم له عقله، وقلبه، فسرعان ما يسري فيه روح عجيب، يعيد ترتيب النفس، وتنظيم الفكر، وضبط الوجدان.. يجد كلاماً جليلاً، وقولاً ثقيلاً، ونوراً مبيناً. قال تعالى: "وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ" [الشوری: 52].

ومما يُعين على التفكر اختيار المكان المناسب، كالمسجد، أو ركن هادئ لا يقطع على المرء فيه خلوته مع القرآن الكريم، واختيار وقت يكون فيه الجسم مرتاحاً، والذهن صافياً. وقد اعتنى السلف بهذه العبادة الجليلة وكان لهم فيها أحوال: قال أبو سليمان الداراني: "إني لأخرج من منزلي فما يقع بصري على شيء إلا رأيت لله علي فيه نعمة ولي فيه عبرة". وقال أيضاً: "الفكرة مرآة تريك حسناتك وسيئاتك". وقال سفيان بن عيينة: "الفكرة نور يدخل قلبك". والشافعي يوصي قائلاً: "استعينوا على الكلام بالصمت، وعلى الاستنباط بالفكر".

وحين قيل لإبراهيمَ بنِ أدهم: إنَّك تطيل الفكرة؟ فأجاب سائلَه قائلاً: "الفكرة مخُّ العقل". يقول الإمام ابن القيم - يرحمه الله - في تهذيب مدارج السالكين: "إن المؤمن المتفكر الذاكر يُفتح له باب الأنس بالخلوة، والوحدة في الأماكن الخالية التي تهدأ فيها الأصوات والحركات، فإنها تجمع عليه قوى قلبه وإرادته أي: تعينه على التركيز، وتسدّ عليه الأبواب التي تفرّق همَّه أي: التي تُشتّتُ ذهنه، ثم تفتح له باب حلاوة العبادة بحيث لايكاد يشبع منها"، لذا قال الحسن البصري يرحمه الله: "تفكر ساعة خير من قيام ليلة"، يعني: بدون تفكر وتدبر. فهكذا كان السلف الصالح يقومون بعبادة التفكر، وآليَّة التعقل، لكي يقوموا بما افترضه الله تعالى عليهم، من فريضة غيَّبها كثير من المسلمين في وقتنا الحالي, فلقد انشغل كثير من المسلمين للأسف بنوع آخر من التفكير ألا وهو التفكيرِ الدنيوي، ولم يشتغل أكثرُهم بالتفكير الذي يقدِّم حلولاً نافعةً للأمَّة المسلمة، أو بالتفكير في مخلوقات الله، أو بالتفكير في مصيرهم الأُخروي وكيف يستعدون له، كلُّ هذا قليلٌ ممَّا يفقهه كثير من المسلمين، مع أنَّهم يعلمون أنَّ أمَّةً تعيش بلا تفكير فإنَّها تسرع إلى الاضمحلال والهوان.

كما أنَّنا نعلم أنَّ أمَّة لا تفكر هي حتماً أمَّةٌ لا تبدع! وإنَّ قيمة الأمَّة بدينها وعقيدتها وقيمها وأفكارها ومبادئها لا بأشيائها! وأن موجوداتِها لو فقدت وثرواتِها لو نقصت فإنه يسهل عليها استعادتُها إذا لم تَفقد طريقتَها في التفكير.