بدأت ظلال وسحُب قاتمة تلبّد سماء الإسلام وأرضه، وتضبّب رؤية الناظرين إليه، كلما تخلف المسلمون عن الفهم الحق لدينهم وتمثّل مقاصده، فأصبح المسلمون قاصرين عن تقديم صورة الإسلام في جماليته تلك. لقد طغى في تمثل العالم لدين الإسلام أنه قرين للتخلف والتبعية والاستبداد، وإهانة المرأة وسلب حريتها، وقرين للإرهاب والحروب الأهلية. تحول العالم الإسلامي إلى قصعة تتداعى عليها الأمم، ليس من قلة في العدد أو ضعف في العُدة والإمكانيات، ولكن بسبب انبعاث دعاوى "الجاهلية"، مع أن كِتاب ربنا وسنة نبينا وبهاءَهما وجمالهما ما زالا فينا، لكننا قصرنا عن إدراك ذلك الجمال تارة، وقصرنا في تمثله والعمل بمقتضاه تارة أخرى. وقد قامت الدعوات الإصلاحية والتجديدية عبر التاريخ على تجديد الفهم للدين وتجديد العمل من خلال الرجوع إلى النموذج الأول في تمثُّل أحكامه، باعتبار ذلك النموذج قد تلقاه الصحابة مباشرة عن رسول الله صلى الله وعليه وسلم. ويتعين أن يتواصل ذلك العمل التجديدي من أجل إعادة تقديم الإسلام للناس، تقديما يميط اللثام عن حقيقته في أصالته الأولى، أي من حيث إنه هو دين الرحمة العالمية (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)، ودين الانعتاق والتحرر (لم يكن الذين كفروا والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة)، ودين السلم (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله).
كما أنه دين البر والقسط في العلاقة مع الآخرين المسالمين (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتقسطوا إليهم، إن الله يحب المقسطين. إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم، ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون).
إن الإسلام دين لا يبادئ أهله -الفاهمون له على حقيقته- الآخرين بالعدوان، ولكن يكتفون برد العدوان (وقاتلوا في سبيل الله الذين يُقاتلونكم ولا تَعتدوا، إن الله لا يحبّ المعتدين. واقتلوهم حيث ثقفتموهم، وأخرجوهم من حيث أخرجوكم، والفتنة أشد من القتل. ولا تُقاتلوهم عندَ المسجد الحرام حتى يُقاتلوكم فيه، فإن قاتلوكم فاقتلوهم، كذلك جَزاءُ الكافرين، فإن انتهوا فإن الله غفورٌ رَحيم).
إنه الدين الذي سبق إلى مفهوم الردع الإستراتيجي، فهو حين يأمر بإعداد ما يكفي من القوة العسكرية الرادعة إنما يفعل ذلك لتفادي استخدامها؛ إذ المقصود من الإعداد ردع الخصوم وتوازن الرعب، الذي يقود المعتدين المحتمَلين إلى التفكير ألف مرة قبل اللجوء إلى استخدام القوة. واليوم، ومن أجل انبعاث جديد للأمة الإسلامية؛ فإنه ليس مطلوبا منها أن تكون هذه الأمة رائدة في الاقتصاد العالمي، وإنما يكفي أن تحقق استقلالها الاقتصادي؛ وليس مطلوبا منها أن تكون رائدة للأمم في العلوم والتكنولوجيا.
ذلك أن العرب حين استقبلوا الإسلام واستوعبوا رسالته في جماليتها وعدلها وسماحتها وعالميتها، ونزوعها نحو التحرر وإقرارها للكرامة الإنسانية، لم يكونوا في صدارة الأمم من حيث المعارف أو العلوم أو في التنظيمات الإدارية والنظم السياسية والاجتماعية. بل إن رسالة الإسلام نزلت أول مرة في وادٍ غير ذي زرع عند البيت المحرم! لكنهم قدموا لأمم أخرى أكثر منهم تقدما في ذلك كله جمالية الإسلام في مختلف أبعادها المشار إليها، فتحولت كل مكاسب البشرية وخبراتها وتنوعها الثقافي، ورصيدها الحضاري كله، إلى رصيد يخدم رسالة الإسلام وحضارته، وتنصهر كل الأجناس في بنائه الحضاري الضخم.
وينبغي -من خلال إبراز جمالية الإسلام ومحو كل ما التصق بها من صور ذميمة وقبيحة- إعادة تقديم الإسلام للعالم، هذا هو الجهد الذي يتعين على المسلمين القيام به. وحين يتحقق ذلك لن تصبح رسالته حكرا على العرب، ولا على الشعوب الإسلامية المتخلفة؛ بل سيُصبِح كل رصيد البشرية من المعارف والعلوم والخبرات يشتغل لصالح الإسلام. وستتطلع إليه الشعوب المقهورة والمضطهَدة والمستعبَدة من قبل الآلهة الجديدة: آلهة الاستهلاك والتضليل الإعلامي، والمرابين العالميين، آلهة النخاسة الجديدة وتشييء الإنسان وتسليع المرأة، وذلك عندما تكتشف أنه لا حرية إلا في عقيدة التوحيد الصافي كما يبشر به الإسلام.
الحاجة ماسة إلى إعادة تقديم الإسلام إلى العالم من خلال إعادة إبراز جماليته، وتجديد عملية إخراج الأمة الإسلامية إخراجا جديدا، تماما كما انبعثت تلكم الأمة أول يوم، وكان منطلقها من "وادٍ غير ذي زرع" في مكة، وعلى أيدي قوم بسطاء لم يكن لهم رصيد كبير من ثقافة أو حضارة، لكنهم في وقت ضيق تحولوا إلى أساتذة للعالم.
الآراء