في 21 شباط سنة 1965 أسكتت أكثر من عشر رصاصات أكبر قلب نبض بالثورة والمناداة بالحقوق المدنية للسود في ديار الأمريكان.. وقد ارتبط هذا القلب بالإسلام كحلّ لأزمة العرق والتفرقة العنصرية في أمريكا.
بل كان يقول إن أمريكا بحاجة إلى أن تفهم الإسلام لأنه الدين الوحيد الذي يتجاوز قضية اللون.. إنه الشهيد «مالكولم اكس» أو «مالك شبّاز» كما تسمى بعد رحلته الأخيرة للحج.
وسيرة مالكولم اكس تعتبر من أعجب سير الزعماء في هذا العصر. ويكفي أن مذكراته طبعت حوالى أربعين طبعة في أمريكا وحدها.. وقررت كمادة دراسية في أقسام العلوم السياسية وأقسام دراسات الأقلية السوداء بالجامعات، كما أن خطبه وضعت في معامل اللغة للتدريب على الخطابة باعتباره ثاني أبرع خطيب شهدته الستينات. والشيء المؤسف أننا لا نعرف في العالم العربي عن مالكولم اكس إلا الاسم، و إن زعماء سوداً آخرين من أمثال «مارتن لوثركنغ» هم أكثر شهرة منه، على الرغم من أن هذا الأخير كان من أنصار إسرائيل، بعكس مالكولم اكس الذي كان يعمل للتضامن مع العالم العربي والإسلامي.
حياة الجريمة
عاش مالكولم اكس حياة بائسة في مطلع عمره, فقد تشرّدت أسرته وهو في الصغر، وذلك بعد أن قتل أبوه على يد البيض وأصيبت أمه بالجنون، ففقد الرعاية وتشرّد ولم يحصل من التعليم على أكثر من سنوات عشر، وامتهن أعمالاً متواضعة، فعمل ماسح أحذية وخادماً في المطاعم والمراقص وبائعاً للمارغوانا ثم لصاً محترفاً في عمليات السطو.
وقد أنقذته يد القدرة مرات عديدة من ارتكاب حماقات القتل، وأنقذه ذكاؤه مرات عديدة من مطاردات البوليس.. ولكن ضاقت حوله الحلقة أخيراً ووقع في الفخ.
في السجن
حكم على مالكولم اكس بالسجن عشر سنوات، تعرّف فيها على سجين أسود من رجال السطو يدعى «بمبي» ذي مقدرة فكرية عالية يخلب لبّ السجناء بأفكاره، وكان يبهر مالكولم منه أنه كان يوحي بالاحترام الأكمل بفضل سلطان الكلمات وحده.. وقد دعاه بمبي إلى أن يعمل على استخدام عقله وعلى أن يستفيد من مكتبة السجن.. ولأن مالكولم لم يدرس شيئاً من الابتدائية فقد نسي حتى القراءة نفسها، ولكنه أصرّ على استخدام معلوماته السابقة فطلب قاموساً للغة حفظه كاملاً عن ظهر قلب.
وبدأ يقرأ في كتب المكتبة أول الأمر بلا قصد، ثم تعلم اختيار الكتب في سبيل هدف محدد في ما بعد، وأكب على بطولات التاريخ والاجتماع من أمثال تاريخ الحضارة (لويل ديورانت) ومختصر التاريخ لصاحبه هـ, ج، ويلز.. والتاريخ الأسود لكارتر ج- وودسن.. وكانت قراءاته بوجه عام منصبة حول المسألة العرقية والعنصرية أو حول كل ما بدا له أنه من القراءة التي تساعد السود في قضاياهم, وبدا واضحاً أن حياة مالكولم أخذت تتجه وجهة أخرى نحو الرصانة والجد.
الإسلام
لم يكن أثر السجن على الرجل في تعلم القراءة والكتابة وحسب، وإنما تعلم كذلك الإسلام فقد آمن أشقاؤه برسالة «اليجا محمد»، ثم كتبوا إليه ليدرس الإسلام.. واعتنق بعد البحث إسلاماً مشوهاً مختلطاً بنزعات العنصرية والعرق.. ومن السجن بدأ في مراسلة « اليجا محمد» الذي كان يردّ عليه بتواضع كامل ويزوّده بتعليمات الدين الجديد.
وفي ربيع عام 1952 نطقت لجنة إخلاء السبيل الشرطي حكمها لصالح مالكولم اكس وأطلق سراحه، وقد قصد بعد ذلك إلى « ديترويت» حيث رئاسة حركة المسلمين السود.
وصل هناك واحتك بدعوة اليجا محمد وبتجمعات المسلمين السود وأصبح من دعاتهم المرموقين.. وافلح في السنوات الأخيرة في أن يجتذب إلى الحركة ما يزيد على الأربعين ألفاً من الأعضاء.. وقد اهتم خاصة بنشر الإسلام في مجتمعه القديم الذي عايشه كثيراً في «هارلم» وغيره.. مجتمع الدعارة والسرقة ومرتادي السجون والمغنين التراجيديين، وانتشل قسماً كبيراً منهم إلى الإسلام.
وكان لا بدّ لكل مسلم جديد من هؤلاء أن يكابد تربية أخلاقية مرهفة، وتحولاً روحياً جوهرياً حتى يعتبر مسلماً، يسمح له بالانتساب إلى الحركة ومساجدها. ولذلك فقد كان التدخين محرّماً على المسلمين وكذلك سموم المخدرات. ولأن السود كانوا مبتلين بهذه السموم، فقد قامت حركة المسلمين بوضع برامج معقدة لانتزاع هذه السموم حتى أن هيئات الصحة العامة كانت تطلب منهم أن يكشفوا لها سر علاجهم للإدمان.
وبجانب هذه المعالجات الاجتماعية والحضارية فقد كانت راية مالكولم تزداد عنفاً وتطرفاً، بينما كان أستاذه يميل إلى المسالمة والرفق، وقد حذر مالكولم اكس من عواقب تطرفه قائلاً: «من الأفضل لي أن أمتلك برذوناً أعتمد عليه من أن أملك حصان سبق لا أطمئن إليه».
وقد انبثق تطرف مالكولم من انعكاسات حياة الضنك التي عاشها في صباه وذكرياته للسعات الجوع والبؤس. وأما فكره القومي فقد تطور على مراحل ثلاث.. غذّى المرحلة الأخيرة منها حادث بارز سعد به في آخر عمره. فقد آمن مالكولم أولاً بأنّ البيض- كل البيض- هم بالطبيعة شرّ محض، وأنهم مصدر كل ما تعرّض له السود من الظلم والقهر، واعتقد- بتعليم أستاذه- أن الرجل الأسود هو الذي خلق في البدء، وأن بعضهم قد ارتكب سيئات فاحشة مسخوا بسببها إلى بيض، وأن سيادة الرجل الأبيض قد انتهت، وأن المستقبل أصبح لمصلحة السود. ودعا مالكولم اكس إلى الانسحاب من المجتمع الأمريكي (مجتمع الشيطان) لأن غضب الله سيحل عليه. وانتهى بأن يطالب بولاية خاصة من الولايات المتحدة للسود، يشكلون فيها مجتمعهم بعيداً عن البيض.
رحلة الحج
لم يعرف مالكولم اكس إسلام ما وراء البحار، وفي كل مرة كان الشباب العرب يحيطون به في محاضراته ويقترحون عليه زيارة العالم الإسلامي لكي يتفهم الإسلام الحقيقي، واستجاب أخيراً لهذه الدعوة وقرر أن يقوم برحلة الحج.
في حج عام 1384 هجري التقى بجموع المسلمين من كل جنس ولون، وكان محط رعاية بوصفه ممثلاً للمسلمين السود، ولم يجد نوعاً من التفريق العرقي في مجتمع الحج، كما عرف أن البيض يمكن أن يكونوا مسلمين مثلهم مثل السود والسمر والصفر، وبدأ من هذه التجربة يراجع أفكاره القومية ويسجل تغييراً راديكالياً فيها.. ومن هناك كتب نسخاً من رسالة واحدة وجهها إلى أصحابه ونشرتها الصحف وضّحت سرّ التغيير. يقول في مقاطع من رسالته׃ « لم أجد في عمري كله مثل هذا التكريم الصادق الذي وجدته هنا، ولم أجد روحاً غامرة من الأخوّة الحقيقية مثلما وجدت هنا بين الناس من كل الأجناس والأعراق. ففي خلال الأحد عشر يوماً التي قضيتها في العالم الإسلامي أكلت من نفس الطبق وشربت من ذات الإناء ونمت على ذات الفراش. هذا بينما كنا نصلي لذات الإله مع جموع المسلمين من ذوي العيون الأكثر زرقة والشعر الأشد شقرة والبشرة الأنصع بياضاً والذين هم في كلامهم مثلما هم في أفعالهم أحسست بنفس الصدق الذي أحسسته في المسلمين من نيجيريا وغانا والسودان.
وبعد رجوعه من الحج تغير تفكيره كآلاتي:
1) قال إنه لم يعد يتّهم كل الناس البيض، وأنه سيصبح أكثر حرصاً في تصنيف الناس واتهامهم.
2) نبذ فكرة الانفصال عن المجتمع الأمريكي, وأهمل فكرة المطالبة بالولاية السوداء وآمن بأن ميثاقاً لحفظ الحرية والعدالة والمساواة للسود يمكن أن يضمّهم إلى مجتمع البيض.
3) بدأ يراجع تعريفه للقومية السوداء، وذلك بعد أن أنكر عليه السفير الجزائري في غانا قائلاً: وأنا أين أكون في هذا التعريف؟
من وراء قتل مالكولم اكس؟
تعرض الرجل لمحاولات اغتيال وإنذارات بالموت أقلقته في آخر أيامه, فكان يكافح ليتفاداها في ذات الوقت الذي كان يسرع في خطى كفاحه من أجل حقوق السود.
وقد تعرض لحادث تسمم مقصود في القاهرة سنة 1964, وعندما قفل راجعاً إلى نيويورك مروراً بباريس رفضت السلطات الفرنسية السماح له بالدخول خوفاً من اغتياله هناك.
وعندما وصل إلى نيويورك انفجرت قنبلة كوكتيل مولوتوف في بيته، نجا منها وأحرقت البيت.
وكان مالكولم يعرف أخطار الطريق جيداً وكان يتحسّب للموت. يقول في آخر مذكراته: «إنني أصحو كل يوم فأحس بأني قد ظفرت بيوم جديد، وأني سأموت حقيقة متى ظهر هذا الكتاب».
ولكنه كان مستبشراً بالشهادة ودنوّ الأجل، وبأنه قد أدى واجبه على الوجه الأكمل، فقد طوّر نفسه وطور قناعاته وجاهد في سبيل الحق.
وكان أعداء مالكولم اكس كثراً لا يحصيهم العد. ولذلك تعذّر معرفة من قتل منهم مالكولم، فقد كانت هناك مراكز اليهود التي خشيت من مركز قوي جديد إسلامي هذه المرة في السياسة الأمريكية، يضغط من أجل الحق العربي والإسلامي. وكانت هناك الرأسمالية الطاغية الاحتكارية في الشمال الأمريكي التي تستغل السود، وكانت هناك الإدارة الأمريكية نفسها التي تخشى من ثورة السود في مطالباتهم بحقوق الإنسان.
بالإضافة إلى ذلك فقد كان جناحا حركة السود (المسيحي منها والمسلم التابع لاليجا محمد) ضد مالكولم اكس بعد أن أصبح الزعيم الشعبي المحبب لتجمعات السود، وكان اليجا محمد حانقاً بصورة خاصة على مالكولم اكس لانشقاقه عنه.
ولسوف يبقى اللغز محيراً حتى بعد إطلاق سراح قاتل مالكولم بعد أن قضى سنواته في السجن، وهو من المسلمين السود، ولكنه رفض التصريح بهوية محرّضيه على القتل.
رحم الله مالكولم اكس، فبجهاده نال السود حقوقهم في التصويت وفي المساواة وفي الحقوق المدنية.
الآراء