إنّ الناظر في القرآن الكريم يجد أن أحوال القلوب والمشاعر الإنسانية وما اتصل بها من صفات عاطفية وأفعال النفس قد نالت حظًّا من كتاب الله بالتصريح أو الإشارة أو الدلالة، وفي ذاك عناية ربانية تسعى إلى تنقية المجتمعات من أمراض القلوب والحثّ على إحياء الصفات الإنسانية الراقية في نفوس وقلوب العالمين، لتستقيم بنورها وتنال صفاء الحال، فكانت صفة الحنان إحداها بدلالتها الشمولية على صفات قلبية أخرى متصلة بها أو تنبع من آثارها وزاد من خصوصية هذه الصفة أنها ذكرت مرة واحدة في كتاب الله منسوبة كصفة لعبد من عباد الله تعالى هو نبيه الصالح يحيى عليه السلام، في سورة مريم، ولعل هناك رابط يجمع بين هذه الصفة وخصوصية الصفات العامّة في سورة مريم.

يقول الأستاذ الأديب سيد قطب عن سورة مريم: "إن سياق هذه السورة معرض للانفعالات والمشاعر القوية.. الانفعالات في النفس البشرية، وفي "نفس "الكون من حولها، فهذا الكون الذي نتصوره جمادًا لا حس له يعرض في السياق ذا نفس وحس ومشاعر وانفعالات، تشارك في رسم الجو العام للسورة. حيث نرى السماوات والأرض والجبال تغضب وتنفعل حتى لتكاد تنفطر وتنشق وتنهد استنكارًا ".

يتضح لنا من قول قطب قالب المشاعر والأحاسيس وجوّ العاطفة المتنقل في السورة، فإننا نجد أن السمة الأولى الأبرز لسورة مريم في القرآن هي ( الرحمة )، إذ ابتدأت بقوله تعالى: {كهيعص * ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} [مريم: 1، 2]، ومما اختتمت به السورة قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم: 96]، فالأجواء الرحمانية ظللت على السورة منذ افتتاحيتها وصولا إلى خاتمتها، وسورة مريم هي السورة التي حظيت بأكبر نصيب من بين السور الكريمة بتكرار اسم "الرحمن" فيها بست عشرة مرة، من أصل سبع وخمسين مرة في كتاب الله تعالى، في حين أن عدد كلمات سورة مريم هو واحد على ثمانين من عدد كلمات القرآن الكريم ككل، كما أننا نجد أن صفة "الرحمة" تكررت في السورة أربع مرات كلها منسوبة إلى الله تعالى، على الصيغ التالية: "رحمة ربك، رحمة منا، رحمتنا، رحمتنا"، وآية السجود في السورة تضمنت اسم الرحمن.

وقد كان الرأي الغالب في معنى كلمة الحنان عند أهل اللغة والسادة المفسرين على أنها الرحمة، قال ابن الأثير: "الحنان الرحيم بعباده، فعال من الرحمة للمبالغة "، فكان ذكر كلمة الحنان في هذه السورة بالذات أولى من غيرها تبعا لشخصيتها المتصفة بالرحمة، ومن ذهب إلى أن معنى الحنان المحبة أو التعطف فمن آثارهما الرحمة أيضا فهي منظومة مترابطة، ونجد أن الأستاذ الأديب سيد قطب يؤكد في عبارته على تبيان شخصية سورة مريم المتصفة بالرحمة: "والظل الغالب في الجو هو ظل الرحمة و الرضى والاتصال. فهي تبدأ بذكر رحمة الله لعبده زكريا {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} [مريم: 2]، وهو يناجي ربه نجاء: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} [مريم: 3].. ويتكرر لفظ الرحمة ومعناها وظلها في ثنايا السورة كثيرًا، ويكثر فيها اسم "الرحمن"، ويصور النعيم الذي يلقاه المؤمنون به في صورة ودّ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم: 96]، ويذكر من نعمة الله على يحيى أن آتاه الله حنانًا {وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا} [مريم: 13]، ومن نعمة الله على عيسى أن جعله برًا بوالدته وديعًا لطيفًا: {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا} [مريم: 32] ، وإنك لتحس لمسات الرحمة الندية ودبيبها اللطيف في الكلمات والعبارات والظلال".

وأما السمة الثانية الغالبة على سورة مريم ومتصلة بصفة الحنان فهي "البرّ"، فنجد في السورة الحثّ على برّ الوالدين والحديث عن علاقة الأسرة الواحدة من أب وأم وابن وأخ بين فروع وأصول فكل ما اتصل في هذه السورة من معاني البرّ للوالدين، تجده أتى رقيقا لطيفا فيه من الحنو والتعطف ما فيه، ولما كان معنى البرّ بحق العباد هو الإحسان إلى الخلق فيما بينهم فلم يوجد من هم أحق بالبرّ من الوالدين لعظيم فضلهم، وكانت الصفة الملازمة لطبيعة هذا الإحسان في الغالب الحنان وخفض الجناح للوالدين، ولما كان من معاني البرّ الصلة فالحنين ما يورث في القلب شوق العود للوالدين، ومن جماليات هذه السورة الكريمة وأسرارها بأن فعل "برّ "في موضع برّ الوالدين لم يذكر في القرآن الكريم سوى في سورة مريم في وصف يحيى وعيسى عليهما السلام.

و السمة الثالثة المتصلة بصفة الحنان، فهي اسم السورة "مريم" وهي السورة الوحيدة في القرآن التي حملت اسم لأنثى وهذه الأنثى أم، فكم ناسب أن تذكر صفة الحنان في سورة اسمها لأم فمن المتعارف عليه أن أكثر الصفات التصاقًا بالأم هي صفة الحنان، وأنّ من أعظم ما يتصل بالأم من وصف هو حنانها الذي يميزها عن الأب أو الأخت والأخ، وكما تعارف القول بأن حنان البشر أجمع لا يعوّض عن حنان الأم بشيء إن فُقد، فنسأله رحمنً رحيمًا أن يهبنا حنانًا لدنيًّا ينزع من القلوب قسوتها، ويفيض في الروح أُنسًا ويورث في الذهن إدراكًا يعقبه فعلاً ببرّ والدينا والإحسان للناس من حولنا.