في هذه السلسلة، نناقش قبساً من کلمة العقل والعقلانیة الإسلامیة بصورة وجیزة التي تهمنا لفهم العصر الحاضر. حقّاً إنّ حیاة المسلمین الیوم في أنحاء العالم مثقلة بالبدع وبالکثیر من الجهل بدینهم وإسلامهم وحضارتهم وثقافتهم وماضیهم؛ ومملوءة بتقالید وصور وعادات بالیة التي تصادم جوهر الدین وروحه وعقلانیته والتفکر في آیات الله المقروءة والمنظورة. مع الأسف نجد فی مجتمعاتنا الإسلامیة، الشکلیة والتقالید والعادات البالیة والقدیمة التي سیطرت علی المنهجیة والعقلانیة الدینیة بشکل کبیر وتُرک العقل والعقلانیة التي أکّد الدین علیهما أشدّ التأکید. إن العقل أعلی هبة وعطیة مبارکة ونعمة عظمی من الله تبارک وتعالی التی أودعها في الکیان البشري، وللعقل قدرات خارقة ومدهشة وهو أشبه بعملاق نائم في الغرفة المظلمة السوداء التي یحتاج إلی التنبیه والإیقاظ.

العقل جوهر الإنسانیة ولُبها وعصارتها؛ کرّم الإسلام العقلَ وجعل له المکانة الأعلی والأسمی في الکون و نوّه بالعقلاء و الذین یعقلون فی کل الأمور. العقل أکبر مفتاح و آلة لفتح الأسرار المغلقة والمکنونة للعالم؛ ومدار الرقّي و التنمیة و الصعود فی جمیع المجالات.

والعقلانیة تیار سائل ومستمر کسيولة الماء؛مجالها ودائرتها وإطارها؛وسیعة وعمیقة وناتجة عن عملیات العقل. الوصول إلیها تدریجي وبحاجة ماسة إلی الذکاوة والتجربة والعلم " القرآن الکریم یستخدم صیغة الفعل _ یعقلون – یفقهون –یتفکرون –لیشیر إلی المحصول النهائي الذي یشکل العقل ومضامینه والذي ینجلي في سلوک المرء ویحدد مواقفه کما ینظم ردود أفعاله وکأنه بهذا النهج یشیر إلی العمل علی ذلک المحصول باعتباره الثمرة الشاملة لکل جوانب العقل وباعتباره المحک النهائي في تقییم ما نحرزه من تقدم في هذا السبیل."( بکار؛ 136 )

و في الشریعة الإسلامیة لابّد للعقلانیة التي من نتاج العقل أن یکون في إطار الوحي وفي دائرة الإسلام وحظیرته لا کما یقول الفلاسفة الغربیون؛ "العقل و العقلانیة حرّ في أیّ مجال ومیدان وله سیادته الخاصة علی الکون، حتّی ماوراء الغیب وعالم المجردات".یقول دکتر محمد البهی المفکر الإسلامی حول العقل والعقلانیة الغربیة"في نظر أصحاب عصر التنویر؛ للعقل، الحق في الإشراف علی کل اتجاهات الحیاة و ما فیها من سیاسة وقانون ودین "(البهی؛ 323) کما یعتقد فلسفة الوضعیة الإنسانیة بهامشیة الدین في الحیاة الإنسانیة کلها؛ هذا «أوجست کونت»رائد فلسفة الوضعیة العقلیة، یقول :لتقدم البشریة ثلاث مراحل متتابعة"1_ مرحلة الخرافة 2_ مرحلة الدین 3_ مرحلة العلم ( الوضعیة ) ویری « کونت » إنه لکي نتجنب أخطاء المرحلة الثانیة لنصل إلی علمیة المرحلة الثالثة فإنه علی الفکر أن یتجرد من الغیبیات والأوهام ویرکز اهتمامه علی فکرتی الواقع والنافع ولا غیر وهذا أساس الوضعیة(الحوالی؛ 378)

 

إن العقل و العقلانیة یستطیع أن ینتقد کل شییء ویتدخل فیه؛ لکن للنقد مجال واسع و إطاره ودائرته محددّان؛ علی سبیل المثال لا یمکن للمسلم الفهیم أن ینتقد آیة من القرآن التی لا یفهم حکمتها لأنها کلام لخالق علیم و حکیم وقدیر و الإنسان الضعیف کیف یستطیع أن ینتقد کلام الذي هو الکمال المطلق؟! یقول بعض العلماء استناداً إلی مقال إبراهیم علیه السلام (رب أرنی کیف تحیي الموتی قال ألم تؤمن قال بلی ولکن لیطمئن قلبي){ بقرة؛ 260 }یمکن أن نقوم بنقد القرآن؛ لکننا نقول فی جواب هؤلاء؛لا، هذا مستحیل؛ هذا المقال لإبراهیم علیه السلام لا علاقة له بالنقد. لو تأملنا بدقّة فی لفظ«کیف »؛ نستطیع أن نفهم الفهم الدقیق کما بیّن المفسر الشهیر الشعراوي قائلاً: "إبراهیم لم یسأل ربه لیقول له أتحیي الموتی؟ وإنما قال له «کیف تحیي الموتی » فالسؤال عن الکیفیة ( الجهل من الکیفیة )لا عن أصل وقوع الحدث؛ فهو مؤمن بأن الله یحیي الموتی؛ هذه القضیة مسلّمة عند إبراهیم ولکن المسؤول عنه أنه یرید أن یعرف الکیفیة" « شعراوي؛ 14 »

القرآن یؤکد علی اهتمام شدید بقضایا العصر وهذا لا یمکن إلّا بالعقل والعقلانیة التأملیة التي منبعثة عن التفکر في آثار خلق الخالق القدیر وطلبَ من المسلمین صرف الفقه الدیني عن الاشتغال بالماضي، و قد قال تبارک وتعالی( تلک أمةٌ قد خلت لها ما کسبت ولکم ماکسبتم ولا تُسألون عما کانوا یعملون){ بقرة 134 }.في قوله تعالی« لکم ما کسبتم» یعنی حصیلة عقولکم وعقلانیتکم الحکیمة وحکمتکم الدینية المتینة التي تتجسم في أعمالکم و سلوککم الاجتماعیة والسیاسیة والشعائریة؛ لهذا وجود عقلانیة متکاملة لازمة لفهم قضایا المعاصر؛یعني أنّ التطور العقلانیة وتنمیتها في المجتمعات الإسلامیة ومؤسساتها فی غایة الأهمیة؛ لأنّ العقلانیة العلمیة والعملیة هو الطریق الوحید للرشد فی الجوانب الثلاثة لمظاهر العبودیة المطلقة لله تعالی: 1- المظهر الشعائري 2- المظهر الاجتماعي 3- المظهر الکوني ، لذلک فی استطاعة العقل والعقلانیة فقط أن یکشف القوی المکنونة والخفیة في الکون؛ لأن العقلانیة التي هي محصول العقل هي أساس آلیات الرشد لجوانب المتعددة الإنسانیة. نص القرآن الکریم علی أن الإنسان المسلم دائماً في اجتهاد وتعب وکبد الجسمیة والعقلیة والروحیة للوصول إلی الله تعالی «یا أیّها الإنسان إنک کادحٌ إلی ربکَ کدحاً فملاقیة»{ إنشقاق؛ 6 }تبیّن الآیة لنا أن معرفة الرب تبارک وتعالی هي المحصول النهائي للکدح الجسمی والعقلیة الدینیة؛ لهذا صدُّ سبیلِ العقل والعقلانیة یساوي إغلاق المعرفة والرشد والتزکیة المتواصلة علی أساس العقلانیة الدینیة في جمیع المجالات.

وفي ختام هذا المقال ننبّه إلی عدم استخدام العقل والعقلانیة التأملیة التي أصاب الإنسان بأضرار فادحة الدنیویة والأخرویة إلی الأبد؛ قال الله تبارک و تعالی عن النادمین والخاسرین من أهل جهنم الذین عطلوا عقولهم الدینیة ولم یتفکروا بها(وقالوا لو کنا نسمع أو نعقل ما کنا في أصحاب السعیر ){تبارک؛ 10 }یقول الزمخشري صاحب « الکشاف »حول کلمة« نعقل»: نعقله عقل المتأملین (( زمخشری؛566))........ یتبع.

 

المصادر

1- بکّار ؛ عبد الکریم؛عصرنا والعیش فی زمانه الصعب.

2- البهی؛ محمد؛ الفکر الإسلامي الحدیث وصلته بالاستعمار الغربي؛ دار الفکر.

3-  الحوالی؛سفر؛ العلمانیة نشأتها وتطورها وآثارها؛ مکتب الطیّب.

4- زمخشري؛عمر؛ تفسیر الکشّاف؛ دار الکتب العلمیة.

5- شعراوي؛ محمد متولی؛ أهوال القیامة؛ مکتبة بسام.