رمضان هو المنطلق..فيه نزل القرآن، (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ)185البقرة.. ومنه كانت البداية في ليلة القدر (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ)1القدر.. وفيه تحقق أول نصر للإسلام في بدر فرق الله تعالى به بين الحق والباطل (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون)123آل عمران.. وإليه اليوم نعود.. نعود إلى المحضن الأول نتزود منه بكل أنواع الخير فنعرفه بأنه شهر الصوم، وشهر القرآن، وشهر الرحمة، وشهر المغفرة وشهر التقوى، وشهر الغفران والعتق من النيران، وللتوبة في رمضان نصيب أوفى.. فالتوبة في جوهرها وحقيقتها هي مراجعة العبد لذاته ومسارات حياته في الفترة السابقة، ليكتشف ويحدد أخطاءه فيعالجها ويصوبها بشكل عاجل.. ونحن مأمورون بالتوبة على كل حال (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)31النور .. ومدعوون كذلك إلى التوبة النصوح (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ)8التحريم.. فلا أحد من البشر فوق الخطأ والذنب، ومن ثم التوبة والاستغفار، كما ورد عن الحبيب صلى الله عليه وسلم: "كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون"[1].. وكان وهو النبي ا?عظم الذي غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر يستغفر الله ويتوب إليه أكثر من مائة مرة في اليوم والليلة[2].

وللتوبة شروط يقول الحق تبارك وتعالى(إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَ?ئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)160البقرة، ويقول تعالى (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَ?ئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمً)70الفرقان، فالتوبة في القرآن الكريم مقرونة با?صلاح والتبيان والإيمان والعمل الصالح.. وشروط التوبة عند العلماء هي الإقرار والاعتراف بالذنب(الخطأ) والندم عليه، والإقلاع عنه، والعزم على عدم العودة إليه.. وإذا كان الذنب متعلقا بأحد من العباد، فيزيد العلماء شرطا آخر وهو رد المظالم إلى أهلها.. والتوبة وفق هذا المفهوم هي عملية مراجعة ذاتية كاملة.. فالعبد لن يبدأ في عملية التوبة قبل أن يحاسب نفسه "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا"، ويكتشف مواطن الخلل والخطأ والزلل، ومن ثم يعترف بخطئه ويقر به ثم يقلع عنه ويسعى ?صلاحه، ثم يغير مسارات حياته.. التوبة بهذا المعنى تحتوي مفهومين من مفاهيم التنمية الذاتية وتطوير الذات، هما مفهوم المراجعة الذاتية، ومفهوم التغيير الذاتي ..

    ولاشك أن التوبة عن المفاهيم والتصورات وا?فكار الخاطئة أهم من التوبة عن التصرفات وا?فعال الخاطئة ذاتها،لأن الأعمال صالحها وفاسدها تتبع النية والقصد، والنية والقصد إنما تنتج عن التصور والاعتقاد.. "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى".. إن فساد التصور يفسد العمل، فمثلا فساد الاعتقاد يفسد العمل ولو بدا للناس صالحا، يقول تعالى: (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)65الزمر.. ولذلك حرص الإسلام قرآنا وسنة باستمرار على تصحيح المفاهيم والتصورات والمراجعة الفكرية لأتباعه من أمثلة ذلك:( قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ? قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَ?كِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ?)14الحجرات ..إلى أن قال:(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ? أُولَ?ئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ)15الحجرات.. وحسب بعض الناس أن طريق الإيمان إلى الجنة مفروش بالأزهار والرياحين لا فتنة فيه ولا اضطهاد ولا عذاب، فنزل القرآن يدرأ هذا الوهم، ويخطّئ هذا الفهم (الم1 أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ2 وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ? فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ3)العنكبوت.. ومن الناس من يحسب أن التغيير المادي سبب التغيير في عالم النفس، فيقرر القرآن عكس ذلك، ويبين أن التغيير الروحي والمعنوي هو الأصل والأساس:(إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ)11الرعد. وهكذا ظل القرآن الكريم ثلاثة وعشرين عاماً يبين الحقائق ويزيف الأباطيل، ويصحح التصورات والمفاهيم، وصحح النبي صلى الله عليه وسلم مفاهيم كثيرة جداً لعل أهمها مفهوم الإيمان، فليس الإيمان بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل:"لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"، " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به"، "ليس بمؤمن من بات شبعان وجاره جائع"، وحقيقة القوة؛ فيردها إلى قوة النفس لا إلى قوة الجسم: "ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)[3]. ومثل ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم "أتدرون من المفلس؟"، وحديث "أتدرون ما الغيبة؟"، وغير ذلك كثير..

    إن مراجعة المفاهيم والتصورات والأفكار والحال كذلك هي المقدمة الطبيعية للتوبة الفكرية والثقافية، التي هي أُمّ التوبة، لأنها توبة نصوح عن بواعث الأعمال الخاطئة.. إن واحدة من أعظم صور تصحيح المفاهيم ومراجعة التصورات والأفكار والأخذ على أيدي المسلمين للمراجعة الذاتية ومحاسبة أنفسهم، في القرآن الكريم، هي التي أعقبت غزوة أُحد بعدما أصاب المسلمين ما أصابهم من مصيبة وقرح، فنزل القرآن الكريم يواجههم بحقيقتهم: (أَوَ لَمّا أَصَابَتْكُمْ مّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنّىَ هَـَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنّ اللّهَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)165آل عمران، ويعدد الله عز وجل أسباب الهزيمة فلا يحدثنا عن قوة الأعداء ولا عن فجرهم في الخصومة، وإنما يحصر أسباب الهزيمة فيما يخص المجتمع المسلم نفسه من أخطاء وظواهر (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ?حَتَّى? إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ)152آل عمران، وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا?وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ?إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ(155آل عمران، لقد نزل تعقيب القرآن الكريم على أحداث غزوة أُحد بعد عودة النبي صلى الله عليه وسلم وجيشه إلى المدينة، رغم ما أصاب القوم من جراح، وما اتخذه الله تعالى منهم من شهداء، ورغم شماتة الأعداء وتربصهم بالمسلمين من كل صوب وحدب.. هذا هو منهج القرآن في تصويب الأخطاء ومراجعة النفوس عقب حدوث الخطأ الكبير في غير تلكؤ ولا تهاون ولا تبرير.. ولم يقل قائل: إنّ في نزول مثل هذه الآيات البيّنات فرصة للكفار ليتغنوا بأخطاء المسلمين في المعركة.. وقد كانت الحرب الإعلامية بين قريش والمسلمين على أشدها.. لكن هذا هو منهج الحق تبارك وتعالى أن يعالج الأخطاء ويربي النفوس أولا بأول .. إن أول سبل تحقيق النصر القضاء على الأسباب الداخلية والنفسية والتربوية للهزيمة.. في ضوء هذه المعاني الربانية نحن في أحوج ما نكون إلى ممارسة فضيلة المراجعة الذاتية الفكرية والثقافية والمنهجية في رمضان، ليتوب الله علينا من خطايا التصور والتباس المفاهيم..

[1] - وقد حسّن الحديث الألباني، وحسين سليم أسد في تخريجه لمسند أبي يعلى.وصححه الحاكم -كما سبق-، وقوّاه الحافظ في كتاب الجامع من بلوغ المرام.

[2] - في الحديث الذي رواه مسلم

[3]  - يوسف القرضاوي أفكار ومفاهيم المجتمع المسلم نقلا عن موقعه باختصار