ذاكرة التاريخ هي الحوادث التي دارت فيه، والتي سجلتها أقلام المؤرخين، فمنهم من يتجرد، ومنهم من يحلل، ومنهم من يتأثر، ويبقى الحادث هو الجامع المشترك بين كل ذلك.
والتاريخ ينبغي أن يكون التعامل معه للعبرة والاتعاظ، وقديماً قيل: من رأى العبرة في أخيه فليعتبر. والعاقل من يتعظ بما يحل بغيره من حوادث فلا يكرر أخطاء الآخرين.
وبناء عليه فإن التعامل مع ذاكرة التاريخ ينبغي أن يكون للعبرة والعظة، ولتجنب أخطاء الماضي سعياً نحو حياة أفضل للبشرية على سطح البسيطة >قل سيروا في الأرضِ فانظروا كيف كان عاقبةُ الذينَ من قبلُ كان أكثرهم مشركين<.
إلا أننا في أحايين كثيرة نجد أن البعض يعمد إلى نبش التاريخ ليس للعبرة والعظة وإنما للفتنة والشر وبث الاضطراب في المجتمعات، تحقيقاً لمآرب خسيسة ومصالح ضيقة ولو على حساب أمن الناس وأمانهم، وحياتهم ودمائهم، فتراه يسعّر حروباً لا تبقي ولا تذر ليحقق مصلحة ضيقة خاصة به.
اليهود.. والتاريخ
وأكثر من عرف عنه ذلك عبر التاريخ هم اليهود: فهم الذين حرّضوا الرومان على سيدنا عيسى عليه السلام وحوارييه، وهم الذين حرّضوا دائماً على قتل الأنبياء والمرسلين لأجل شهوة آنية، ومتعة فانية، كما حصل مع قتل سيدنا زكريا عليه السلام، ثم قتل ابنه يحيى عليه السلام.
وكذلك الأمر في زمن بعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كان لليهود الدور الكبير في تأليب العرب على الدعوة الإسلامية، وفي حشد الجموع لاستئصال المجتمع المسلم، مزينين لأهل الضلال ضلالهم، ومشجعين المجرمين على إجرامهم: >أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً. أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً<.
اليهود في المدينة المنورة
حاول اليهود جاهدين الإيقاع بين مكونات المجتمع المسلم الواحد في المدينة المنورة، على الرغم من كل الامتيازات التي منحهم إياها الإسلام عن طريق الوثيقة النبوية في المدينة المنورة، متوسلين لذلك الضرب على وتر الانتماء القبلي والعشائري.
ففي أحد أيام الصفو والمودّة التي أرساها الإسلام بين الأوس والخزرج في المدينة المنورة، فصاروا بنعمة الله تعالى إخواناً بعد أن كانوا أعداءً متقاتلين، جلست مجموعة من الأنصار – أوساً وخزرجاً – يتبادلون مشاعر الألفة والمودة، إذ مَرَّ بهم أحد أحبار يهود، فغاظه ما وجد من تآلفٍ في قومٍ كان هو وقومه يعملون جاهدين لتفرقة كلمتهم. وفي هذا المعنى جاء في تفسير ابن كثير حول الأوس والخزرج أنه « كانت بينهم حروب كثيرة في الجاهلية وعداوة شديدة وضغائن وإِحَنٌ طال بسببها قتالهم والوقائع بينهم، فلما جاء الله بالإسلام فدخل فيه من دخل منهم صاروا إخواناً متحابين بجلال الله، متواصلين في ذات الله، متعاونين على البر والتقوى، قال الله تعالى: >هو الذي أيّدكَ بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم لو أنفقتَ ما في الأرضِ جميعاً ما ألفتَ بين قلوبهم ولكنَّ الله ألف بينهم<.
وقد ذكر محمد بن إسحاق بن يسار وغيره أن قول الله تعالى: >واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً< نزلت في شأن الأوس والخزرج، وذلك أن رجلاً من اليهود مرّ بملأ من الأوس والخزرج فساءه ما هم عليه من الاتفاق والأُلفة، فبعث رجلاً معه وأمره أن يجلس بينهم ويُذَكِّرَهُم ما كان من حروبهم يوم بُعاث وتلك الحروب، ففعل، فلم يزل ذلك دأبُه حتى حميت نفوس القوم وغضب بعضهم على بعض وتثاوروا، ونادَوْا بشعارهم وطلبوا أسلحتهم، وتواعدوا إلى الحرّة، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأتاهم فجعل يُسَكِّنُهُم ويقول: (أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم)؟ وتلا عليهم هذه الآية ، فندموا على ما كان منهم واصطلحوا وتعانقوا وألقوا السلاح رضي الله عنهم».
والناظر في هذه الحادثة نظرة تأمل وتدبر يدرك مدى الكيد الذي مكر به أعداء الأمة لضربها بعضها ببعض، ولولا موقف سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو سيد العقلاء، لكان للماكرين ما يريدون.
لماذا ينبشون التاريخ اليوم؟
واليوم، بدأنا نرى جهوداً حثيثة من قبل مجموعات عرقية وأتنية كثيرة لنبش حوادث تاريخية لتتخذ سبيلاً لبث الأحقاد، وزرع البغضاء، وإثارة الحروب بين مكونات المجتمع الواحد، وبخاصة في بلادنا العربية التي نكبت عبر التاريخ نكبات متتالية: منها غزو الفرنجة لبلادنا على مدى قرنين من الزمن، ثم جاء غزو التتار والمغول وما سبَّبه من أهوال لم يعرف التاريخ لها مثيلاً، وصولاً إلى الاحتلال الحديث لبلادنا من قبل المنتصرين في الحرب العالمية الثانية حيث وزعوا الغنائم على بعضهم البعض، ثم أنابوا عنهم من يرونهم أمناء على مصالحهم وعلى الحفاظ على حدود (سايكس – بيكو)، مع زرع كيان صهيوني في قلب العالم الإسلامي كالخنجر يغرس في قلب الضحية لقتلها، إلى التغيرات الحديثة التي أوجدت (النظام العالمي الجديد) الذي ليس سوى واجهة لسيطرة أمريكا على العالم.
هذا الواقع الجديد حمل فلاسفة الدولة الأمريكية إلى التنظير سعياً لضمان استمرار هذه السيطرة أكبر فترة ممكنة، فابتكروا نظرية (صراع الحضارات) و(الفوضى الخلاقة) وما نتج منهما من حروب في المنطقة.
ويبقى أهم مشروع وضع لضمان بقاء السيطرة على هذه المنطقة هو مشروع العالم اليهودي البريطاني ثم الأمريكي (برنار لويس) الذي يعتبر بديلاً لسايكس – بيكو.
خريطة مشروع برنار لويس
ويقوم مشروعه على: «تفكيك الوحدة الدستورية لجميع الدول العربية والإسلامية، وتفتيت كل منها إلى مجموعة من الكانتونات والدويلات العرقية والدينية والمذهبية والطائفية»، وقد أوضح ذلك بالخرائط التي بيّن فيها «التجمعات العرقية والمذهبية التي على أساسها يتم التقسيم، وسلم المشروع إلى زبغنيو بريجنسكي مستشار الأمن القومي في عهد جيمي كارتر، الذى قام بدوره بإشعال حرب الخليج الثانية حتى تستطيع الولايات المتحدة تصحيح حدود سايكس بيكو ليكون متسقاً مع المصالح الصهيو- أمريكية.
وافق الكونغرس الأمريكي بالإجماع وفي جلسة سرية عام 1983م على مشروع برنارد لويس، وتمَّ تقنين المشروع واعتماده وإدراجه في ملفات السياسة الأمريكية الاستراتيجية المستقبلية، وهي الاستراتيجية التى يتم تنفيذها بدقة واصرار شديدين، ولعل ما يحدث فى المنطقة من حروب وفتن يدلل على هذا الأمر.
لماذا مشروع برنار لويس؟
كان مبرر برنارد لويس لهذا المشروع التفكيكي: أن العرب والمسلمين قوم فاسدون مفسدون فوضويون، لا يمكن تحضرهم، وإذا تُرِكوا لأنفسهم فسوف يفاجئون العالم المتحضر بموجات بشرية إرهابية تدمِّر الحضارات، وتقوِّض المجتمعات، ولذلك فإن الحلَّ السليم للتعامل معهم هو إعادة احتلالهم واستعمارهم، وتدمير ثقافتهم الدينية وتطبيقاتها الاجتماعية، وفي حال قيام أمريكا بهذا الدور فإن عليها أن تستفيد من التجربة البريطانية والفرنسية في استعمار المنطقة؛ لتجنُّب الأخطاء والمواقف السلبية التي اقترفتها الدولتان، إنه من الضروري إعادة تقسيم الأقطار العربية والإسلامية إلي وحدات عشائرية وطائفية، ولا داعي لمراعاة خواطرهم أو التأثر بانفعالاتهم وردود الأفعال عندهم، ويجب أن يكون شعار أمريكا في ذلك، إما أن نضعهم تحت سيادتنا، أو ندعهم ليدمروا حضارتنا، ولا مانع عند إعادة احتلالهم أن تكون مهمتنا المعلنة هي تدريب شعوب المنطقة على الحياة الديمقراطية، وخلال هذا الاستعمار الجديد لا مانع أن تقدم أمريكا بالضغط على قيادتهم الإسلامية- دون مجاملة ولا لين ولا هوادة- ليخلصوا شعوبهم من المعتقدات الإسلامية الفاسدة، ولذلك يجب تضييق الخناق على هذه الشعوب ومحاصرتها، واستثمار التناقضات العرقية، والعصبيات القبلية والطائفية فيها، قبل أن تغزو أمريكا وأوروبا لتدمر الحضارة فيها.
فهذا المشروع يسعى إليه اليوم عن طريق إثارة النعرات الطائفية والعرقية والأثنية، وصولاً إلى إشعال حروب تقوم على أساس هذه النعرات، تؤدي إلى هجرات وهجرات مضادة، وصولاً إلى إنشاء مجتمعات متجانسة عرقياً ودينياً، الأمر الذي يساعد في بقاء الكيان الصهيوني يهودياً صرفاً. وهذا ما يفسر تلك الهجرات التي يدفع إليها المسيحيون سواء في العراق أو في فلسطين أو حتى في لبنان ومصر.
وبالتالي فالذين ينبشون تاريخ الصراع بين الأديان اليوم ليؤججوا مشاعر الكراهية بين مكونات المجتمعات العربية هم مساهمون في هذا المشروع، سواء علموا بذلك أم لم يعلموا، فلا يشترط في الغباء العمالة، بل يكفي أن يستثار الغبي ليفعل ما يريده عدوّه.
وقد شهدت المنطقة أول كسر لحدود سايكس بيكو في العراق وسوريا عن طريق ما يسمى «الدولة الإسلامية»، ويبدو أن المنطقة مقبلة على تغيرات كثيرة لأن العقل مغيّب حتى الآن.
فما يحدث على أرض العراق من حروب باسم الإسلام، ومن تهجير للمسيحيين باسم الإسلام، وما يقابله من ردات فعل باسم الكنيسة والاضطهاد التاريخي للمسيحيين من قبل المسلمين، ما هو إلا فصول في هذه الخطة القذرة التي لا تريد بالمنطقة خيراً.. فليست العبرة بالمسميات، وليست العبرة بالأشكال، إنما العبرة بما يحدث على الأرض... والله تعالى خيرٌ حافظاً وهو أرحم الراحمين..
ملحق (1):
خريطة العراق وسوريا كما رسمها برنار لويس ويلاحظ فيها ملامح الخلافة الداعشية اليوم..
الآراء