قال الله تعالی" يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" (الحجرات -13)

قال ابن کثیر فی تفسیر الآیة:« یقول الله تعالی مخبراًً للناس أنه خلقهم من نفس واحدة و جعل منها زوجها ، و هما آدم و حواء  وجعلهم شعوباً ، و هی أعم من القبائل و للقبائل مراتب أخرى کالفصائل و العشائر و  غیر ذلک . . .  فجمیع الناس فی الشرف من الناحية الطینیة إلی آدم و حواء سواء؛ وإنما یتفاضلون فيما بينهم بطاعة الله – تعالی – و اتباع رسوله صلی الله علیه و سلم . . .

لتعارفوا ؛ أی : لیحصل التعارف بینهم ، کل یرجع إلی قبیلته »

ومما لاشک فیه أن الکرد شعب من الشعوب التی جعلها الله تعالی لیتعارف به الناس .

وفی اعتقاد الباحث أن دراسة تاریخ الشعوب أحد أسباب التعارف بین الناس، و لا نقصد هنا دراسة التاریخ  القومی والوطنی للأکراد بل نعني تاریخهم الإسلامی .

و إنما نتکلم عن هذا الموضوع لأهمیته الخاصة فی معرفة تاریخ کردستان الإسلامی ، وإننا ما وجدنا کتاباًً أو رسالةًً یتطرق لهذا الموضوع بالصورة التی قصدناها الآن. الباحثون والکتاب کتبوا قسماًً أو مرحلة من التاریخ الإسلامی للکرد ، فمنهم من کتب فی الفتوحات و منهم من کتب فی خدمة العلماء للدین الإسلامی ،و منهم من كتب فی الدول و الإمارات الکردیة  فی العهد الإسلامی و . . .

ومن جانب آخر « أن العرب المسلمین لایعلمون شیئاً من التاریخ الإسلامی لإخوانهم المسلمین الأکراد و خدماتهم للإسلام ، و هکذا لا یعرف الأکراد عن تاریخهم الإسلامی إلا القلیل ».

إضافة إلى ذلك کثرت التساؤلات والشبهات من قبل شباب الاأکراد من جانب ، ومن قبل أصدقائی و زملائی طوال مدة دراستی من جانب آخر و هذه أهمها :

1. ما هو دور الکرد فی التاریخ الإسلامی ؟

2. کیف دخل الإسلام کردستان ؟ عنوةًَ أم سلماًً ؟ وهذا هو السؤال المعهود فی المجتمع الکردی، و ربما یعتقد البعض أن دخول الأکراد فی الإسلام كان بقوة السیف ، و قد وقعت فی کردستان حروب کثیرة التی قتل فیها خلق کثیر من الأکراد و سبی نسائهم و أولادهم و احتلّ بلادهم عنوة و قام العرب بالتطهیر العرقی للشعب الکردي و بتحمیلهم القومیة العربیة و لغتهم علی الأکراد ؟!

3. لیس للکرد وجهة إسلامیة إلا الاعتزاز بقومیته الکردیة و رفع شعار العنصریة  و العلمانیة ، و خاصة فی أيامنامنا هذه ، حتی تجاوزوا عن هذا و قالوا : الکرد بعد الیهود هو أشد تعصباًَ فی قومیته، دون تمییز بین الکردی المسلم المخلص و الکردی العمیل و اتهموا الکرد بحذافيره بالعصبیة القومیة؛ ویقولون کان الکرد دائماًَ یحاول التمرد و الانفصال طوال التاریخ الإسلامی و لاخیر فی إسلامه .

4. ماذا عن قضیة الکرد و الکردستان و ما یقصد الکرد بطرحها ؟ و ما أسبابها ؟ و ما حلها الإسلامی ؟

ففی هذه السلسلة من المقالات نتکلم ونجیب عن تلک التساؤلات،بحسب ما تیسر لنا إن شاء الله.

المبحث الإول:الکرد فی العهد النبوی:

وهو یشمل مطلبین:

المطلب الأول:الصحابی الجلیل جابان الکردی( رضی الله عنه)

جابان(رضی الله عنه) من أصحاب النبی - صلی الله علیه وسلم- وهو من رواة الحدیث علی ما قاله حافظ ابن حجر العسقلانی فی (الإصابة) وهکذا قال الآلوسی المفسر المشهور فی تفسیره(روح المعانی)؛ثبت لبعض الأکراد الصحبة مع النبی صلی الله علیه وسلم.

«والکرد یفتخر بأن واحدا من أصحاب النبی اسمه جابان الکردی وابنه میمون- المکنی بأبی بصیر- عند الکرد محبوب جداًَ،کما یفتخر أهل فارس بصحبة سلمان الفارسی(رضی الله عنه) مع النبی .....»

«وجود صحابي كردي هو (جابان) بين صحابة الرسول محمد عليه السلام دليل قوي علی وجود نوع ما من العلاقات بين الشعبين (الکرد والعرب) قبيل الإسلام بوقت قريب، أو مع عهد بدء انتشارالدعوة الإسلامية في شبه الجزيرة العربية.

فمن هو الصحابي جابان؟

والحق أن المعلومات المتعلقة بحياة الصحابي جابان قليلة جداً، ولا تتحدث عنه المصادر التراثية- ولا سيما كتب التراجم- إلا بأسطر قليلة، لكن ما وصلنا من معلومات حول ابنه التابعي (ميمون) هي التي تنير لنا الطريق إلی حقيقة ذلك الرجل، فالكتب الخاصة برجال الحديث النبوي تذكر تابعيًا اسمه ميمون الكردي، وجاء في كتاب (ميزان الاعتدال في نقد الرجال) للحافظ الذهبي أن كنيته أبو بَصِير، وقد ذكر كل من الحافظ المِزّي والحافظ الذهبي تابعيًا آخر اسمه ميمون بن جابان، وكنيته أبو الحَكَم، روي عن أبي رافع الصائغ، عن أبي هريرة مرفوعًا: "الجراد من صيد البحر".

وقال أحمد بن حنبل في مسنده: حدّثنا يزيد، حدّثنا دَيْلم، حدّثنا ميمون الكردي، عن أبي عثمان؛ سمع عمرَ يخطب، فقال: سمعت رسول الله صلّی الله عليه وسلّم يقول: " إن أخوفَ ما أخاف على هذه الأمة كل منافق عليم اللسان"

وقال اليماني صاحب (الأنوار الكاشفة) عن ميمون الكردي: "

 ووالد ميمـون الكردي لا يكاد يُعرف (وسأل مالكُ بن دينار ميمونَ الكردي أن حدّثَ عن أبيه الذي أدرك النبي وسمع منه، فقال: كان أبي لا يحدّثنا عن النبي مخافة أن يزيد أم ينقص..

ولم تُذكر السنة التي توفّي فيها التابعي ميمون الكردي، لكن المصادر تشير إلى أن مالك بن دينار الذي روى عنه عاش في البصرة، وتوفّي سنة (123، أو 127، أو 130 هـ)، وإذا أخذنا بالحسبان أن متوسط عمر كل جيل يتراوح بين (35 – 40) سنة ، فذلك يعني أن ميمون الكردي كان على الغالب حيًا في العقد الأخير من القرن الأول الهجري.»

معلومات حول جابان:

«یحتمل أن کلمة (جابان )معرب عن (گاوان)أما (جاوان) کما قال دهخدا ـ رحمه الله ـ هی قبیلة من الأکراد أقامت فی مدینة حُلّة بالعراق التی قامت منها شخصیات بارزة من العلماء والأمراء»

ومهما يكن من أمر فإن ما يهمّنا في الدرجة الأولی هو جابان والد ميمون، وقد جاء في (أسد الغابة) لابن الأثير، وفي (تجريد أسماء الصحابة) للحافظ الذهبي، اسم صحابي يدعی جابان أبو ميمون، سمع من النبي محمد عليه الصلاة والسلام حديثًا يفيد :أن أيّ رجل تزوّج امرأة وهو ينوي ألا يعطيها الصداق لقي الله عز وجل وهو زانٍ. أما في (الإصابة في تمييز الصحابة) 

  فجاء الخبرأنه روى ابن مَنْـده، من طريق أبي سعيد مولى بني هاشم، عن أبي خالد: سمعت ميمون بن جابان الصردي، عن أبيه، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم غير مرة، حتى بلغ عشرًا، يقول: من تزوّج امرأة وهو ينوي ألا يعطيها الصداق، لقي الله وهو زانٍ. 

ولم يذكر ياقوت الحموي في (معجم البلدان) مكانًا أو بلداً أو مدينة باسم (صرد)، ولم ترد النسبة إلى هذا الاسم في كتاب (الأنساب) للسَّمْعاني (ت 562 هـ)، ولا في كتاب (اللُّباب في تهذيب الأنساب) لابن الأثير عز الدين (ت 630 هـ)، لكن ورد في كتاب (معجم البلدان) اسم (سَرْدَرُوذ)، وهي من قرى همذان، وقد تكون النسبة (صردي) محوّرة من (سردي) نسبة إلى (سردروذ)، ومثل هذا كثير في العربية. وإذا صحّ ذلك فالأرجح أن جابان الصردي هو والد ميمون الكردي، لأن همذان تقع في إقليم الجبال، وهي من بلاد الكرد، بل هي نفسها (أَكْبَتانا) العاصمة القديمة للميديين (أجداد الكرد) قبل سنة (550 ق.م)

نتائج وحقائق: 

وتقودنا هذه الأخبار جميعها إلی الحقائق الآتية:  

أولها أن جابان كردي، باعتبار أن المصادر نصّت على كردية ابنه ميمون، ومن المحال أن يكون الابن كردياً ويكون الأب من قومية أخرى.

وثانيها أن جابان كان من الصحابة، فقد لقي النبي محمداً صلی الله علیه وسلم، وسمع منه، وروى عنه، وكان الرجل شديد الورع، إلی درجة أنه كان غير متحمّس لرواية الأحاديث عن النبي محمد عليه السلام، مخافة الزيادة أو النقص، ومعروف أن بعض الصحابة كانوا يحجمون عن رواية الأحاديث عن النبي محمد عليه الصلاة والسلام خشية السقوط في خلل عند الرواية، وأن بعض سهام النقد وُجّهت، في  صدر الإسلام، إلى الصحابي أبي هريرة، لأنه كان يكثر من رواية الأحاديث.

وثالثها: أن سماع جابان من النبي محمد عليه الصلاة و السلام لم يكن مرات قليلة، بل كان متكررًا؛ أي أن لقاءه بالنبي لم يكن لقاء عابراً، وإنما كان يلتقيه مرارًا عديدة، وإلا فلماذا يطالب الناس ابنه ميمونًا بأن يروي لهم ما سمعه عن أبيه، عن النبي محمد عليه الصلاة والسلام؟!

ورابعها: أن العرب في أواخر العصر الجاهلي، ومع ظهور الإسلام، لم يكونوا يجهلون الكرد، إنهم كانوا يعرفون أن الكرد شعب قائم برأسه، وكانوا يعرفونهم بهذا الاسم تحديداً، ويميّزون بينهم وبين الفرس والروم والترك والأرمن، رغم تبعية الكرد للدولة الفارسية حينذاك، ولذلك لم يقولوا: (ميمون الفارسي) مثلاً، كما قالوا عن الصحابي الشهير (سلمان الفارسي)، والصحابي (بلال الحبشي)، بل قالوا: ميمون الكردي. 

تساؤلات واحتمالات : أولها: متی قدم جابان إلی منطقة الحجاز؟ وثانيها: أين كان جابان يقيم تحديداً؟ هل كان من سكان مكة، أم من سكان يثرب، أم من سكان الطائف؟! فهذه هي أشهر المدن في الحجاز حينذاك.- وثالثها: ما الذي جعل جابان ينتقل من بلاد الكرد في الشمال الشرقي إلی الحجاز في أعماق بلاد العرب؟ فی هذاالمجال لا تسعفنا المصادر بشيء. وليس لنا إلا أن نحدس ونرجّح. لكن ليس بعيداً عن منطق التاريخ، وليس خارج التحليل الموضوعي.  

ولعل جابان كان من المقيمين في مكة، فهاجر إلى المدينة بعد إسلامه مع من هاجر من المستضعفين؛ إذ المعروف أن جاليات من الفرس والروم والصابئة والأحباش كانت تقيم في مكة، لأغراض تجارية أو تبشيرية أو سياسية، هذا إضافة إلى عدد كبير من الأرقّاء والموالي المختلفي الجنسيات، وقد يكون جابان أحد أفراد تلك الجاليات، أو أحد أولئك الأرقاء؛ على أن نأخذ بالاعتبار أن الكرد كانوا حينذاك معدودين في التبعية الفارسية سياسيًا وثقافيًا.

ولعل جابان كان مقيمًا أصلاً في مدينة يثرب ( المدينة المنوّرة)، وهناك التقى الرسول محمدًا عليه الصلاة والسلام بعد الهجرة. ولعله كان من الجاليات الأعجمية (غير العربية) المقيمة في الطائف، وسمع بظهور الدعوة الإسلامية، فالتحق بها في مكة أو في المدينة المنوّرة. 

امابالنسبة للسؤال الثالث: حقاً.. أمامنا ها هنا أيضاً عدد من الاحتمالات. 

فقد يكون جابان ممن وقعوا في الأسر خلال الحروب الفارسية – البيزنطية الكثيرة، ثم بيع في أسواق النخاسة، وانتقل خلال ذلك من بلد إلى آخر، وانتهى به الأمر إلى مكة أو الطائف أو يثرب أو غيرها من المراكز التجارية، وقد يكون جابان من العاملين في التجارة حينذاك، وكان يتولّى بعض الشؤون التجارية في مكة أو المدينة أو الطائف، أو غيرها، شأنه في ذلك شأن كثير من الفرس والروم والأحباش وغيرهم، وسمع بالدعوة الإسلامية، فانضم إلى صفوفها.

وقد يكون جابان من الكرد الناقمين على الحكم الساساني الفارسي، ومن الثائرين في وجهها، واللاجئين إلی أعماق شبه الجزيرة العربية، هرباً بنفسه من البطش الساساني…..

وإن الجزء الأعظم من صحبة جابان للنبي محمد عليه الصلاة و السلام كان بعد الهجرة، فالأحاديث التي رواها تتعلق بقضايا التشريع التي تنظّم شؤون المجتمع.....) 

المطلب الثانی: وفود الأکـــراد إلی الرسول صلی الله علیه وسلم

«مازال الإسلام لم ينتشرخارج المدینة فی صدر الإسلام  وأهل الجزیرة کانوا ینتظرون النبی المنتظر من قبل ، وحینما بلغهم خبر بعثة النبی صلی الله علیه وسلم جهزوا وفدا فی عدد یقارب اثني عشر رجلا علی وجه الاستعجال وأرسلوهم إلی المدینة علی حین غفلة، فی هيئة تجار لیستخبروا ویعرفوا النبی ویعلنوا مساندتهم ومناصرتهم للدین الجدید وعرف ذلک الوفد بـ:(تجار قبیلة باجن)ولهذا یظهر لنا بهذ المثال أن الکرد قد ذهبوا بأنفسهم وأعلنوا إسلامهم قبل مجیء جیش الإسلام إلی کردستان»  

وقد أدى وصول هذا الوفد الخفی إلى أن الجیش الإسلامی حینما وصل إلی کردستان ما قاوم الأکراد أمام المسلمین بل صالحوهم علی أداء الجزیة أو أسلموا کما سیأتی فی المبحث الآتی إن شاء الله.