مقدمة:
قبل أن نبين الدور الكبير الذي يقوم به القرآن الكريم في معرفة البنية النفس الإنسانية و القوی و المدرکات المودعة فیها ، ينبغى هنا أن نقف وقفة للتعرف إلى خلق الإنسان في القرآن الکریم من خلال الرؤية القرآنية التی تنظر إلى النفس البشرية نظرة كلية شاملة ومتكاملة، على أنها مكونة من الجسد والروح ،حیث لا ینفصل أحد هذین المکونین عن الآخر، بل هي وحدة مترابطة و متماسکة و ممتزجة و متفاعلة في کیان واحد في واقع الحیاة، التي تمثل الذات الإنسانية، في جمیع أحوالها وصفاتها و صورها المختلفة.
خلق الإنسان في القرآن الکریم:
لقد أخبرنا القرآن الكريم أن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان من مكونين أساسين هما: الجسد والروح ويتضح ذلك من خلال الآيات الكريمة التالية:
« وَ جَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيِّ أَ فَلا يُؤْمِنُونَ».
«وَ هُوَ الَّذي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَ صِهْرًا وَ كانَ رَبُّكَ قَديرًا».
«وَ اللّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجًا» .
« وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ ».
« فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ » .
وقد روی الإمام أحمد- رحمه الله تعالى - عن أبي هریرة رضی الله عنه ،قال الرسول صلی علیه و سلم:« كل شيء خلق من ماء ».
روى أبو داود و الترمذی عن أبي هُريرة قال الرسول صلی علیه و سلم:« إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض...».
« الَّذي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَ بَدَأَ خَلْقَ اْلإِنْسانِ مِنْ طينٍ» .
قال الإمام الرازي:طين لاَزِبٌ أي لازق وبابه دخل والَّلازِب أيضا الثابت تقول صار الشيء ضربة لازب وهو أفصح من اللازم
قال القرطبی:«إِنّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طينٍ لازِبٍ» . أي من طين رخو لزج لا قوة فيه ، قال الطبري: وإنما وصفه باللزوب لأنه تراب مخلوط بماء ، وكذلك خلق ابن آدم من تراب وماء ، ونار وهواء ، والتراب إذا خلط بماء صار طيناً لازباً . اللازب: هو الذي يلتصق بعضه ببعض، ثم ترك حتى أنتن.
«وَ لَقَدْ خَلَقْنَا اْلإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ» .
والحمأ: الحَمْأَةُ بفتح فسكون : الطِّين الأسود المُنْتِن المتغيِّر.
قال ابن کثیر:الحمأ: الطين الاسود،... والمسنون :المتغير.
قال ابن منظور:المَسْنون: المُنْتِن.
المصقول من سَننْتُه بالمِسَنِّ سَنّاً إذا أَمررته على المِسنِّ ... والمَسْنونُ المُصوَّر وقد سَنَنْتُه أَسُنُّه سَنّاً إذا صوّرته والمَسْنون المُمَلَّس... وسَنَّ عليه الماءَ صَبَّه وقيل أَرسله إرسالاً ليناً ،... والسَّنُّ الصبُّ في سُهولة.
فكان أولا ترابا، أي متفرق الاجزاء ثم صار طينا، ثم ترك حتى أنتن فصار حمأ مسنونا، أي متغيرا، ثم يبس فصار صلصالا، على قول الجمهور.
« فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي » النفخ إجراء الريح في الشئ.
والروح جسم لطيف، أجرى الله العادة بأن يخلق الحياة في البدن مع ذلك الجسم.
«خَلَقَ اْلإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخّارِ» .
الصَلْصالُ الطين اليابس الذي يَصِلُّ من يُبْسِه أَي يُصَوِّت، وأن الطین الیابس هو صَلْصَالٌ ما لم تُصِبْه النارُ فإِذا مَسَّته النارُ فهو حينئذ فَخَّار.. والصلصال: الطين الحر خلط بالرمل فصار يتصلصل إذا جف، فإذا طبخ بالنار فهو الفخار أصل الصلصال تردد الصوت من الشئ اليابس ومنه قيل صل المسمار، وسمى الطين الجاف صلصالاً.
« فَإِذَا سَوَّيْتُهُ » أي سويت خلقه وصورته. أي خلق أباكم آدم من طين يابس ، يُسمع له صلصلة أي صوت إذا نقر.
وقوله تعالى: « مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ »،أي: من الصفو الذي يسل من الأرض، وقيل: السلالة كناية عن النطفة تصور دونه صفو ما يحصل منه.
« إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ».
الطين: التراب والماء المختلط، وقد يسمى بذلك وإن زال عنه قوة الماء قال تعالى: « مِنْ طِينٍ لَازِبٍ »،.
الطِّينُ الوحل و الطِّينةُ أخص منه و طَيَّنَ السطح تَطْيينا وبعضهم يُنكره ويقول طانَةُ من باب باع فهو مَطِينٌ و الطِّينَةُ الخلقة والجبلة و طَانَ كتابه ختمه بالطين من باب باع فهو مَطينٌ أيضا و فِلسْطينُ بكسر الفاء بلد .
یقول ابن کثیر في تفسیره « هذه القصة ذكرها الله، تعالى في سورة "البقرة" وفي أول "الأعراف" وفي سورة "الحجر" و في "الإسراء" و "الكهف"، وهاهنا وهي أن الله سبحانه أعلم الملائكة قبل خلق آدم عليه السلام بأنه سيخلق بشرا من صلصال من حمأ مسنون».
« لقد خلق الله هذا الكائن البشري من الطين . كما أن سائر الأحياء في الأرض خلقت من طين . فمن الطين كل عناصرها . فيما عدا سر الحياة الذي لا يدري أحد من أين جاء ولا كيف جاء . ومن الطين كل عناصر ذلك الكائن البشري فيما عدا ذلك السر . وفيما عدا تلك النفخة العلوية التي جعلت منه إنساناً . فهو من أمه الأرض ومن عناصرها تكون . وهو يستحيل إلى تلك العناصر حينما يفارقه ذلك السر الإلهي المجهول؛ ویفارقه مع آثار تلك النفخة العلوية التي حددت خط سيره في الحياة ».
یقول الرازي في تفسیره لقوله تعالی : « إِنّي خالق بَشَراً مِّن طِينٍ ». جاء في هذه الآية أن آدم عليه السلام مخلوق من صلصال من حمأ مسنون ، والأقرب أنه تعالى خلقه أولاً من تراب ثم من طين ثم من حمأ مسنون ثم من صلصال كالفخّار .
وفي الصلصال وجهان أحدهما : هو بمعنى المسنون من صل اللحم إذا أنتن ، ويكون الصلصال حينئذ من الصلول وثانيهما : من الصليل يقال : صل الحديد صليلاً إذا حدث منه صوت ، وعلى هذا فهو الطين اليابس الذي يقع بعضه على بعض فيحدث فيما بينهما صوت ، إذ هو الطين اللازب الحر الذي إذا التزق بالشيء ثم انفصل عنه دفعة سُمع منه عند الانفصال صوتٌ ، فإن قيل : الإنسان إذا خلق من صلصال كيف ورد في القرآن أنه خلق من التراب وورد أنه خلق من الطين ومن حمأ ومن ماء مهين إلى غير ذلك، نقول : أما قوله « مّن تُرَابٍ ». تارة ، و « مّن مَّاء مَّهِينٍ ».تارة أخرى ، فذلك باعتبار شخصين: آدم خلق من الصلصال ومن حمأ وأولاده خلقوا من ماء مهين ، ولولا خلق آدم لما خلق أولاده ، ويجوز أن يقال : زيد خلق من حمأ بمعنى أن أصله الذي هو جده خلق منه ، وأما قوله : « مّن طِينٍ لاَّزِبٍ » و « مّنْ حَمَإٍ » وغير ذلك فهو إشارة إلى أن آدم عليه السلام خلق أولاً من التراب ، ثم صار طيناً ثم حمأ مسنوناً ثم لازباً ، فكأنه خلق من هذا ومن ذاك . والفخار الطين المطبوخ بالنار وهو الخزف مستعمل على أصل الاشتقاق ، وهو مبالغة الفاخر كالعلّام في العالم ، وذلك أن التراب الذي من شأنه التفتت إذا صار بحيث يجعل ظرف الماء والسائلات ولا يتفتت ولا ينقع فكأنه يفخر على أفراد جنسه.
قال ابن القیم في تفسیر هذه الآية:«يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ..» فأوقع الخلق من تراب عليهم وهو لأبيهم آدم إذ هو أصلهم.
« وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ » .
يقول تعالى مخبراً عن ابتداء خلق الإنسان من سلالة من طين، وهو آدم، عليه السلام، خلقه الله من صلصال من حمأ مسنون.
وقال ابن عباس: « مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ » أي: صَفوةُ الماء.
وقال مجاهد: « مِنْ سُلالَةٍ » أي: من منيّ آدم.
قال ابن جرير: وإنما سمي آدم طينًا لأنه مخلوق منه. وقال قتادة: استُلّ آدمُ من الطين. وهذا أظهر في المعنى، وأقرب إلى السياق؛ فإن آدم، عليه السلام، خلق من طين لازب، وهو الصلصال من الحمأ المسنون، وذلك مخلوق من التراب، كما قال تعالى: « وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ » .
وقال الرسول صلی علیه و سلم : « ان الله عز و جل خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنو آدم على قدر الأرض، جاء منهم الأبيض والأحمر والأسود وبين ذلك والخبيث والطيب والسهل والحزن وبين ذلك »،.
« ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً » : هذا الضمير عائد على جنس الإنسان، كما قال في الآية الأخرى: « وَبَدَأَ خَلْقَ الإنْسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ » ، أي: ضعيف، كما قال: « أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ . فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ » ، يعني: الرحمُ مُعَدٍّ لذلك مهيأ له، « إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ * فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ »، أي: إلى مدة معلومة وأجل معين حتى استحكم وتنَقَّل من حال إلى حال، وصفة إلى صفة؛ ولهذا قال هاهنا: « ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً » أي: ثم صَيَّرنا النطفة، وهي الماء الدافق الذي يخرج من صلب الرجل -وهو ظهره- وترائب المرأة- وهي عظام صدرها ما بين الترقوة إلى الثندوة- فصارت علقة حمراء على شكل العلقة مستطيلة.
قال عكرمة: وهي دم. « فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً » : وهي قطعة كالبَضعة من اللحم، لا شكل فيها ولا تخطيط، « فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا » يعني: شكلناها ذات رأس ويدين ورجلين بعظامها وعصبها وعروقها. وقرأ آخرون: « فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا » .
قال ابن عباس: وهو عظم الصلب. و روی الإمام البخاري و الإمام المسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل ابن آدم يأكله التراب إلا عَجب الذنَب منه خلق وفيه يركب ». و بعد أن خلق الله تعالی الجسد نفخ فیه الروح قال ابن القیم« والقرآن والحديث والآثار تدل على أنه سبحانه نفخ فيه من روحه بعد خلق جسده فمن تلك النفخة حدثت فيه الروح».
***
نستنتج إذاً من الآيات الكريمة المذكورة أن الماء والتراب عنصران أساسيان في تكوين خلق الإنسان الأول وهو سيدنا آدم عليه السلام. فالماء هو العنصر الأول والتراب هوالعنصر الثاني من العناصر المادية التي تكون منها خلق جسد الإنسان. ومن الامتزاج الماء والتراب التي يحتوي على جملة من مختلف عناصر الأرض بنسبٍ ومقادير على وفق علم الله وحكمته، مر خلق الإنسان بمراحل عدة هي: مرحلة الطين اللازب أي رخو لزج متماسك الذي يلتصق بعضه ببعض، ثم تأتي مرحلة الحمأ المسنون، والحمأ هو الطين المائل إلی الأسود، المسنون هو المنتن و خاضعاً للحرارة العالية، و هو لّیناً صالحاً للصقل و التصویر، و المملس ثم تأتي مرحلة جفاف الطينة ليصبح صلصالاً جافاً يابساً. وهذا الصلصال يشبه الفخار فتكون منها الجسد آدم عليه السلام. وأخيراً تأتي مرحلة نفخ الروح فيه، فكان بشراً سوياً.وأما فيما يتعلق بخلق النفس الإنسانية، بعد خلق الإنسان الأول وهو آدم، فخلق الله منه زوجه، كما قال الله تعالى: ثم بث منهما رجالاً كثيراً ونساءً عن طريق خلق السلالات الإنسانية. وتشير الأيات الكريمة إلى أن النفس الإنسانية تتكون من الماء، ثم يتحول إلى النطفة ثم إلى علقة، ثم إلى مضغة، ثم إلى مضغة مخلقة وغير مخلقة، ثم تكسى المضغة عظاماً، ثم لحماً، ثم جنيناً كاملاً، ثم تأتي مرحلة نفخ الروح في الجنين وهو جسد في رحم أمه بعد أربعة أشهر، فيُنشئُ خلقاً آخر، كما قال الله تعالى:« فَلْيَنْظُرِ اْلإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَ التَّرائِبِ» ، و قوله تعالي : «وَ لَقَدْ خَلَقْنَا اْلإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طينٍ" * ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً في قَرارٍ مَكينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظامًا فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقينَ». و في قوله تعالی:« ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ » أي: ثم نفخنا فيه الروح، فتحرك وصار « خَلْقًا آخَرَ » ذا سمع وبصر وإدراك وحركة واضطراب « فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ».
وعن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، قال: إذا أتمت النطفة أربعة أشهر، بُعِث إليها مَلك فنفخ فيها الروح في الظلمات الثلاث، فذلك قوله: « ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ » يعني: نفخنا فيه الروح (ورُوي عن أبي سعيد الخدري أنه نَفْخُ الروح). قال ابن عباس: « ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ » يعني به: الروح . وكذا قال مجاهد، وعكرمة و غیرهما، واختاره ابنُ جرير ...
قال الإمام أحمد في مسنده عن عبد الله بن مسعود- قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الصادق المصدوق: « إن أحدكم ليُجمع خَلقه في بطن أمه أربعين يومًا، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يُرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: رزقه، وأجله، وعمله، وهل هو شقي أو سعيد، فوالذي لا إله غيره، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيختم له بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيختم له بعمل أهل الجنة فيدخلها».
صفوة القول:أنه سبحانه ذكر من مراتب الخلقة الأولى أموراً سبعة : المرتبة الأولى : قوله : « فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ » وفيه وجهان : أحدهما : إنا خلقنا أصلكم وهو آدم عليه السلام من تراب ، لقوله : « كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ». وقوله : « مِنْهَا خلقناكم » ، والثاني : أن خلقة الإنسان من المني ودم الطمث وهما إنما يتولدان من الأغذية ، والأغذية إما حيوان أو نبات وغذاء الحيوان ينتهي قطعاً بالتسلسل إلى النبات ، والنبات إنما يتولد من الأرض والماء ، فصح قوله : « إِنَّا خلقناكم مّن تُرَابٍ » المرتبة الثانية : قوله : « ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ » والنطفة اسم للماء القليل أي ماء كان ، وهو ههنا ماء الفحل فكأنه سبحانه يقول : أنا الذي قلبت ذلك التراب اليابس ماء لطيفاً ، مع أنه لا مناسبة بينهما ألبتة. المرتبة الثالثة : قوله : « ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ » العلقة قطعة الدم الجامدة ، ولا شك أن بين الماء وبين الدم الجامد مباينة شديدة. المرتبة الرابعة : قوله : « ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِى الأرحام مَا نَشَاءُ » فالمضغة :اللحمة الصغيرة قدر ما يُمضغ ، والمخلقة :المسواة الملساء السالمة من النقصان والعيب . ثم ینفخ الروح فيه، فیکون به الستعداد الإنسان لمعالي الصفات، و موالاة الحق.
و بهذا النوع من التکوين تمييز للإنسان عن سائر مخلوقات الله تعالی ، فهو يشارک الحيوانات في معظم الخصائص الجسمية المختلفة ما یتطلبه حفظ الذات و البقاء من دوافع و انفعالات و قدرة علی الإدراک و التعلم، و لکنه یتمیز عن الحیوان بخصائص روحه التي تجعله ینزع إلی معرفة الله سبحانه و تعالی و عبادته، والتشوق إلی الفضائل والمثل العليا التي ترفع به إلی مستویات الکمال الإنساني، و لهذا کان الإنسان أهلاً لخلافة الله في الأرض. و بهذا نجد أن ما یمیز الإنسان عن الحیوان هو قبسة الروح من الله سبحانه و تعالی التي خصته بالاستعداد لمعرفة الله و الإیمان به و عبادته، و تحصیل العلوم و تسخیرها في عمارة الأرض، و التمسک بالقیم و المثل العلیا في سلوکه الفردي و الاجتماعي. ولا توجد الروح و المادة في الإنسان منفصلیتن أو مستقلیتن إحدیهما عن الأخری، و إنما هما ممتزجان معاً في وحدة متکاملة متناسقة. و تتکون من هذا المزیج المتکامل المتناسق ذات الإنسان و شخصیته. و نحن لا نستطیع أن نفهم شخصية الإنسان فهماً دقیقاً إلا بالنظر إلی هذا الکیان الإنساني بأکمله، المکّون من امتزاج عنصريِّ المادة و الروح.فالإنسان مركب من جسد و روح ، والمقصود من الجسد أن يكون آلة للروح في اكتساب الأشياء النافعة للروح، فلا جرم كان أفضل أحوال الجسد أن يكون آتياً بأعمال تعين الروح على اكتساب السعادات الروحانية الباقية ، وتلك الأعمال هي أن يكون الجسد آتياً بأعمال تدل على تعظيم المعبود وخدمته ، وتلك الأعمال هي العبادة ." فأبان الله لنا الإنسان ذا طبییعة مزدوجة، فهو کیان مادي و قوة معنوية، هو قبضة من طین و نفخة من روح الله، و الإنسان بهذه الترکیبة الثنائیة الفریدة انفرد عن بقية المخلوقات و سما علی کافة الکائنات حتی الملائکة. إن قبضة الطين تتمثل في طبيعة الجسد ومطالبه و فعاليته و ألوان نشاطه ، کالحرکة والأکل والشرب ، أما النفخة من روح الله فتتمثل في الجانب النفسي للإنسان ، وتبدو في الوعي ، والإدراک والفهم والإيمان ، و يعد وجود هذين اللونين من النشاط في کيان الإنسان مظهرا من مظاهر الازدواج في طبيعته ، لهذا نجده يتصرف في بعض الأحيان تصرفات جسدية غريزية مادية ، و يسلک في أحيان أخری سلوکا معنويا نفسياً. و هذا الکیان مع ازدواجه لیس مکونا من عنصرین ینفصل أحدهما عن الآخر، أو یعمل کل منها وحده في اتجاه خاص به، فهو کیان جسمي مادی و قوة معنوية في الوقت نفسه، و الناحیتان المادية و المعنوية تتکاملان لتشکلا فعالية الإنسان و نشاطه.
یقول سید قطب في تفسیرهذه الآية: « يَا أَيُّهَا الإنْسَانُ »، إن هذا الخطاب : « يا أيها الإنسان » ينادي في الإنسان أكرم ما في كيانه ، وهو « إنسانيته » التي بها تميز عن سائر الأحياء؛ وارتفع إلى أكرم مكان؛ وتجلى فيها إكرام الله له ، وكرمه الفائض عليه . ثم يعقبه ذلك العتاب الجميل الجليل : « مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ؟ » هذا العتاب المباشر من الله للإنسان يا أيها الإنسان الذي تكرم عليك ربك ، راعيك ومربيك ، بإنسانيتك الكريمة الواعية الرفيعة . . ثم يفصل شيئاً من هذا الكرم الإلهي ، الذي أجمله في النداء الموحي العميق الدلالة... فيشير في هذا التفصيل إلى خلقه وتسويته وتعديله؛ إن خلق الإنسان على هذه الصورة الجميلة السوية المعتدلة ، الكاملة الشكل والوظيفة ، أمر يستحق التدبر الطويل ، والشكر العميق ، والأدب الجم ، والحب لربه الكريم ، الذي أكرمه بهذه الخلقة ، تفضلاً منه ورعاية ومنة .إن الإنسان لمخلوق جميل التكوين ، سويّ الخلقة ، معتدل التصميم ، وإن عجائب الإبداع في خلقه لأضخم من إدراكه هو ، وأعجب من كل ما يراه حوله . وإن الجمال والسواء والاعتدال لتبدو في تكوينه الجسدي ، وفي تكوينه العقلي ، وفي تكوينه الروحي سواء ، وهي تتناسق في كيانه في جمال واستواء!.بناءً علی ذلک أن تفسيرا صحیحا لشخصیة الإنسان و طبيعته ینطلق أساساً من خلال طبيعة الإنسانية في القرآن الکريم ، و نستطيع من خلال هذه الرؤية القرآنية أن نتعرف علی الانسان من حيث بنائه و وظيفته.
الآراء