لقد أنشأ القرآن من خلال تعاليمه الشاملة المتكاملة أمة مميزة فاعلة بين الأمم ، إيجابية مؤثرة في ساحة الاجتماع والحضارة ، تقيم العدل والقسط بين الأمم وتضع لهم الموازين والقيم ، وهذا سببه وسطيتها "وكذلك جعلناكم أمة وسطا ً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً" [البقرة: 143] .
والوسط تحمل معاني: العدالة والخيرية والأفضلية، وذلك أن الزيادة على المطلوب إفراط، والنقص عنه تفريط ،وكل من الإفراط والتفريط ميل عن الجادة القويمة، فالخيرية هي الوسط بين طرفي الأمر أي التوسط بينهما. [تفسير المنار2 / 4 :].
فالأمة وسطية في تصورها واعتقادها بين الروح والمادة ، وبين الواقعية والمثالية ، والثوابت والمتغيرات ، والفردية والجماعية ، وبين الترخص والتشدد ، وهي وسط في الزمان تنهي عهد طفولة البشرية من قبلها وتحرس عهد الرشد العقلي من بعدها. [ظلال القرآن : 1 / 131].
وإنما اختار القرآن لفظ الوسط دون الخيرية – كما قال الإمام محمد عبده – لحكمة دقيقة : وهو التمهيد للتعليل الآتي "لتكونوا شهداء على الناس" فإن الشاهد على الشيء لا بد أن يكون عارفا ًبه ، ومن كان متوسطا ًبين شيئين فإنه يرى أحدهما من جانب وثانيهما من الجانب الآخر ، وأما من كان في أحد الطرفين فلا يعرف حقيقة حال الطرف الآخر ولا حال الوسط أيضا. [تفسير المنار: 2 / 4].
إن لشهادة الأمة مفهوم عميق : فهو حضور معرفي منهجي دائم مؤثر ، و منازلة للواقع و تعديله باتجاه الوسط ، وتصدّر العالم لكي تقيم الحجة على الناس . وهي حاضرة في الغائب بمعرفته ودراسته والحكم عليه . فهذه اللفظة تعبر عن حال الأمة الإسلامية التي أخرجها الله للناس،فهي تصل بين الماضي والحاضر بكل ما فيهما، وتقف على تفاصيلهما وتربطهما معا ً في صياغة حضارية تفيد حاضرها ومستقبلها، إنها الرابط بين مختلف الثقافات و الحاكمة عليها عن وعي وإلمام ودراية.
إن لشهادة الأمة مفهوم عميق : فهو حضور معرفي منهجي دائم مؤثر ، و منازلة للواقع و تعديله باتجاه الوسط ، وتصدّر العالم لكي تقيم الحجة على الناس . وهي حاضرة في الغائب بمعرفته ودراسته والحكم عليه . لذا على أمة الوسط تعرّف ثقافة وفكر من تشهد عليهم ، ورؤية تفاصيل مشهدهم الثقافي وإلا لم تتحقق الشهادة . وبالتالي أصبحنا شهودا غائبين وحضورا ساهين غافلين !! أو قل شهداء زور !!.
فالشهادة مفهوم كبير لحقيقة الرسالة السماوية وحقيقة وظيفتها الحضارية ، وهي مشروطة بالقسط والعدل والميزان التي هي أحد معاني القوامة لله . إن وسطية الأمة وبالتالي شهادتها هي خيرية مفتوحة لمنفعة الناس جميعا ًوالجنس البشري بأكمله ، لأنها تتطلب التشكل المعرفي الدقيق والعميق ، وموقعا ًحاضرا ً شاهدا ً مرموقا ًبين الأمم ، يمثل قوة اعتراض حضاري لا مجرد رفض وجداني أو ردة فعل دفاعي وعاطفي لواقع محبط . وهي تحتاج لمراجعة عالم أفكارها بشكل مستمر ، لتنقية مواردها وتجديدها ، وللتحصين الثقافي ضد الغزو الآثم ، مع ضرورة العودة إلى الجذور للتمكن من العلوم الأصلية لتراثنا ، لتأتي انطلاقة النهضة من ركائز متينة . فتستأنف دورها في القيادة الحضارية للبشرية وتحقق الصلاح المطلوب لعمارة الأرض .
إن وسطية الأمة وبالتالي شهادتها هي خيرية مفتوحة لمنفعة الناس جميعا ًوالجنس البشري بأكمله ، لأنها على الصعيد السياسي والحضاري والاجتماعي اليوم تتطلب التشكل المعرفي الدقيق والعميق ، وموقعا ًحاضرا ً شاهدا ً مرموقا ًبين الأمم ، يمثل قوة اعتراض حضاري لا مجرد رفض وجداني أو ردة فعل دفاعي وعاطفي لواقع محبط .
لقد جاء في الحديث أن هذه الأمة تشهد على الأمم حين تنكر بعث الرسل يوم القيامة: ".. فيقال له – أي النبي المكذَب-: ومن يشهد لك؟ فيقول: محمدٌ وأمته. فيُدعى محمد وأمته فيقال لهم: هل بلَّغَ هذا قومه ؟ فيقولون: نعم. فيُقال : وما علمكم ؟ فيقولون: جاءنا نبينا محمد [صلى الله عليه وآله وسلم] فأخبرنا أن الرسل قد بلّغوا فذلك قوله تعالى: "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا". [البخاري وأحمد]. فهي شهادة آخروية . وكذلك هي شهادة دنيوية ، أخرج البُخَارِيُّ ومُسْلِمُ عن أَنَسٍ قال:" من أثنيتم عليه خيراً وجبت له الجنة ، ومن أثنيتم عليه شراً وجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض- كررها ثلاثا" وزاد التِّرْمِذِيّ: ثم تلا رسول الله: "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا".
إنها مسؤولية وأمانة أن تكون هذه الأمة شهداء الله في أرضه تحكم على الناس وعلى الأمم فترفع وتخفض وتزكي وتذم الخلق في ميزاني الآخرة والدنيا .فلنتق الله في هذه الأمانة !!
الآراء