عندما توفي مصطفى كمال الذي لُقّب ب "أتاتورك"؛ أي أب الأتراك في العاشر من تشرين الثاني عام 1938م، وكان قد حول تركيا من سلطنة عثمانية امتد نفوذها على مساحات واسعة في أوروبا وآسيا وإفريقية، ومركزًا للخلافة الإسلامية والقيادة السياسية للمسلمين في العالم، وأهم قوة عسكرية وسياسية في العالم لمدة لا تقل عن أربعمئة سنة إلى جمهورية علمانية تقتصر سيادتها على ما سُمّي "تركيا" وفق الخريطة السياسية القائمة لها اليوم، منهياً حكم آل عثمان الذي استمر أكثر من ستمئة عام. كانت تركيا تمر بمنعطف كبير عندما خاضت الحرب العالمية الأولى، وهُزمت فيها، وكانت مهددة بالزوال والاندثار، ولكن انتصارات القائد العسكري مصطفى كمال في اليونان، والدردنيل؛ جاناق قلعة، وأنطاليا، بدت في نظر الأتراك وكأنها أنقذت تركيا، وعد مصطفى كمال بطلاً قومياً، وصار الشخصية الأكثر أهمية في تركيا، وطغى نفوذه على السلطان، واستخدم نفوذه هذا في إلغاء الخلافة والسلطنة العثمانية وإقامة جمهورية تركيّة على النمط الأوروبي الحديث، وخاصة أنموذج الجمهورية الفرنسية التي بهرت العالم في ذلك الوقت بفكرتها السياسية الديموقراطية والقومية. ولد مصطفى كمال عام 1881م في سالونيك اليونانية، وكانت تابعة للدولة العثمانية، وتلقى تعليمه في المدارس والكليات العسكرية، وحصل عام 1905م على رتبة نقيب، وبدأ خدمته العسكرية في دمشق، وقد حقق أثناء خدمته العسكرية انتصارات وبطولات عدة في ليبيا وألبانيا وحلب حتى عد عام 1915 بطلاً وطنياً، بعدما استطاع رد الغزو عن تركيا، واستخدم مجده الذي تحقق في جمع الحشود العسكرية والشعبية في مواجهة السلطان وتأسيس مجلس الأمة الذي تولى رئاسته، وعينه المجلس الوطني رئيساً لأركان الجيش برتبة مارشال، وهو في الخامسة والثلاثين من عمره، وبعد انتصاره في غرب تركيا، وتوقيعه معاهدة لوزان مع بريطانيا وفرنسا وإيطاليا واليونان، التي أنهت الحرب وبينت الحدود السياسية القائمة اليوم لتركيا، وانتُخب مصطفى كمال بالإجماع رئيساً للجمهورية التركية في التاسع والعشرين من تشرين الأول عام. 1923م. وواصل مصطفى كمال بعد ذلك على مدى خمسة عشر عاماً من حكمه سياسات علمنة وتحديث الدولة التركية، ساعياً لجعل تركيا دولة أوروبية قلباً وقالباً؛ في النظام السياسي والإداري واللباس واللغة وسائر أنماط الحياة. ومازالت تركيا منذ ذلك الحين مشغولة بنفسها، وتبدو كأنها لم تستفق بعد من ذهولها، أربكتها التحديات والخيارات الصعبة القاسية، ولكنها اليوم أكثر ارتباكاً مع الفرص المتاحة والممكنة لها للمشاركة السياسية والاقتصادية في قيادة أوراسيا، قلب العالم الأزلي، ولم تعد تقود العالم أو تشارك في قيادته كما كانت طوال أربعة قرون خلت قبل القرن العشرين، لكنها مازالت كلمة السر التي تشغل النظام العالمي، ومازالت قادرة على أن تكون قوة قيادية إقليمية بل عالمية، فهي في موقعها وإمكانياتها وامتدادها في آسيا الوسطى والشرق الأوسط وأوروبا، ونظامها الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وتاريخها وثقافتها وتجربتها قادرة على الدوام أن تبقى دولة مؤثرة في العالم بل وقادرة على المشاركة في قيادته، ولكنها تبدو مشغولة بالصراع الذي أطلقه أتاتورك ولم يتوقف، صراع العلمانية والإسلامية، والشرق والغرب، ولكنها في ذلك لم تحسم خطواتها ومواقفها، فلا هي تقدمت بحزم للتعاون الإقليمي والتحرك وفق معادلة الجغرافيا الأزلية، ولا استثمرت عمقها العربي والإسلامي وامتدادها الجغرافي والثقافي، ولا استطاعت أن تكون شريكاً كاملاً للغرب، فأوروبا مازالت مترددة وخائفة إزاء المشاركة التركية، فتركيا هي الشريك الكبير المسلم ويمكن أن يغير وجه واتجاه أوروبا، ويمكن أن يعود إلى حليفه الاستراتيجي السابق "الولايات المتحدة الأمريكية"، فيعرقل فرص وأحلام أوروبا في التحول إلى قوة عالمية مستقلة عن الولايات المتحدة، وتعيد وجهة أوروبا نحو المتوسط؛إفريقية والشرق الأوسط، وتضعف تلك الروابط التي تحولت إلى قيود وأصفاد مع الضفة الأخرى من الأطلسي، واليوم تواجه تركيا خيارات لم تعد تمهلها وتسمح لها بالانتظار أو اللعب في الوقت الضائع. وقد ضرب المتطرفون من العسكر والسياسيين الذين فقدوا كثيراً من تأثيرهم على وتر الكرامة الوطنية، ويدعون إلى عدم المشاركة في الاتحاد الأوروبي؛ لأنها – بزعمهم- تتضمن إملاءات تمس تركيا وتهينها، وتقلل من سيادتها وهيبتها على أراضيها. وهكذا، فإن تركيا تبدو حائرة بين إغواء من بعيد يعفيها من الإصلاح، ويقدم لها فرصاً سريعة وسهلة وإن كان يحول بينها وبين أن تكون دولة قيادية ومؤثرة في محيطها، وأن تحل إلى الأبد قضاياها الداخلية والخارجية، وبين إصلاح قد يكون مكلفاً ومرهقاً، وقد يؤدي إلى تمزق وخلاف داخلي قومي وسياسي وإثني وبخاصة أنه يجد من يشجعه وينميه من قوى سياسية مؤثرة وقادرة. استطاع حزب العدالة والتنمية بقيادة رجب طيب أردوغان أن يخرج تركيا بعد حوالي ربع قرن من التيه السياسي الذي لم يمكن حزباً سياسياً أو ائتلافاً من تشكيل الحكومات وقيادة الدولة، وبدأ حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا معتمداً على الأغلبية المريحة التي استطاع الحصول عليها في تسوية شاملة للقضايا الكبرى العالقة، والدخول في الشراكة الأوروبية والشراكة الشرق أوسطية والشراكة مع الدول والشعوب التركية في أوروبا وآسيا الوسطى، وحققت تركيا مستويات متقدمة من التنمية الاقتصادية أوقفت الأزمات الخانقة التي هددت الحكومات والمجتمعات. وكانت أخطر مشكلة أوجدها أتاتورك لتركيا هي مسألة كردستان والأقليات غير الكردية؛ فالسياسة القومية التركية جعلت الأكراد المجموعة السكانية الثانية في حالة عدم انسجام مع الدولة المركزية، فالكرد لهم أقاليمهم ولغتهم وثقافتهم الراسخة، التي لا يقبلون إلغاءها ولا يمكن ذلك. وكان إعلان حزب العمل الكردي عن وقف العمليات العسكرية من طرف واحد يؤشر إلى آفاق جديدة يمكن التوصل إليها في تركيا حول مسألة الأكراد، وإمكانية الوصول إلى حل يرضي الأكراد، ولا يخل بالسيادة التركية ووحدة أراضيها، فالأكراد في تركيا اليوم يتجهون إلى النضال السياسي، ويتخلون عن العنف والتمرد، وقد زادت الأهمية السياسية والإعلامية للقضية الكردية في تركيا على نحو يجعلها تتقدم وتضغط على الحكومة التركية أكثر من القتال. ولكن المسألة الكردية عميقة التأثير وتحتاج إلى مبادرة جريئة يقبل بها الكرد والترك في آن معًا، وهو ما يبدو صعب المنال. وقد اعتقد الحكام الأتراك أنهم باعتقال أوجلان عام 1998 قد أنهوا، كما صرح بولنت أجاويد رئيس الوزراء الأسبق، قضية الصراع الكردي، ولكن ذلك لم يكن سوى وهم وتمنيات غير واقعية. لم يكن الأكراد في تركيا على عداء مباشر مع الدولة العثمانية، بل إنهم تحالفوا معها في حروبها مع الأرمن وروسيا في القرن التاسع عشرالميلادي، ولكن الأكراد قاموا بثورة على الدولة العثمانية عام 1880 بقيادة زعيمهمم الشيخ عبيد الله عندما اتجهت الدولة العثمانية لتسوية قضية الأرمن على حساب الأكراد. وطالب الأكراد في عهد أتاتورك بحكم ذاتي في مناطقهم، ثم تحولت هذه المطالبة إلى ثورة أُخمدت بالقوة، وكانت هذه الثورة بقيادة الشيخ سعيد الكردي سبباً في إجراءات قمعية وتشريعية أضرت بالأكراد ووضعهم في الدولة الكردية حتى يومنا هذا، وتكررت الثورات والانتفاضات الكردية ضد الدولة المركزية في تركيا ولكنها جميعها وصلت إلى طريق مسدود. اعتمدت حكومة أتاتورك عام 1925 خطة عُرفت بخطة إصلاح الشرق؛ أي شرق البلاد التي يشكل فيها الأكراد أغلبية السكان، وتركزت الخطة على حظر استخدام اللغة الكردية في المؤسسات الرسمية والمدارس والمحاكم وأماكن العمل والمحاكم والأسواق والشوارع، ومازال هذا القانون سارياً حتى اليوم. وصدر أيضاً قانون التوطين الإجباري الذي يقضي بنقل مجموعات سكانية كردية من المناطق الشرقية وتوزيعها في مختلف أنحاء البلاد، ومنع غير الأتراك من إقامة بلدات ومدن على نحو يجعل منها أحياء سكنية مستقلة. وفي جهوده لعلمنة تركيا، أنشأ أتاتورك حالة سياسية واجتماعية جديدة أدت إلى شرخ كبير في تركيا، وآلت إلى انتصار الإسلاميين في الانتخابات وهزيمة الكماليين، فالجمهورية التي أسسها مصطفى كمال أتاتورك لتكون - كما الدول الأوروبية- علمانية ديموقراطية لا تشبه أوروبا بشيء، فهي في مسائل الديموقراطية والحقوق المدنية والحريات وقضايا الأقليات تمارس ظلماً وانتهاكاً، بل إنها ظلت منذ تأسيسها دولة الحزب الواحد حتى عام 1945، وبمجرد بدء التعددية السياسية فيها هزم حزب أتاتورك هزيمة كبرى. بدأت التعددية الحزبية في تركيا عام 1945، فكان حزب التنمية القومي برئاسة نوري ديميراغ، والحزب الديمقراطي بقيادة جلال بايار وعدنان مندريس الذي حقق أغلبية كبرى عام 1950، وتكررت انتصاراته عام 1954 و1957، مما أدى إلى وقوع انقلاب عسكري عام 1961 لإعادة حزب أتاتورك إلى السلطة، وأُعدم مندريس، ولكن الحزب الديمقراطي الذي صار حزب العدالة بقيادة سليمان ديميريل رجع مرة أخرى إلى السلطة ليترأس ثلاث حكومات متعاقبة حتى عام 1971 عندما أجبره العسكر على الاستقالة، ووضعوا يدهم على السلطة حتى عام 1973، فأُجريت انتخابات نيابية فاز فيها حزب الشعب (أتاتورك) بقيادة الشاب بولنت أجاويد الذي كان قد هزم قبل سنة (1972) عصمت إينونو زعيم الحزب التاريخي وخليفة أتاتورك ورئيس الحزب لمدة ثلاث وثلاثين سنة. وظلت الأمور في حالة توازن بين الحزبين الرئيسين: العدالة بقيادة سليمان ديميريل، والشعب بقيادة بولنت أجاويد حتى عام 1980. وقد شهد عام 1970 أول ظهور علني للعمل الإسلامي السياسي بقيادة البروفيسور نجم الدين أربكان مؤسس حزب النظام الوطني، ثم حزب السلامة الوطني الذي شارك في ثلاث حكومات إحداها برئاسة بولنت أجاويد اليساري، ومرتين مع سليمان ديميريل اليميني. واستمرت الحركة الإسلامية في صعود تدريجي حتى كان حزب الرفاه الإسلامي هو أقوى الأحزاب السياسية وأهمها في تركيا في منتصف التسعينيات، وشكل أربكان حكومة ائتلافية بالتحالف مع تشيلر، إلى أن أجبر على الاستقالة عام 1997، ثم برز في حزب الفضيلة، الذي أنشئ بعد حظر حزب الرفاه، تياران؛ أحدهما تقليدي بقيادة رجائي قوتان، والآخر تجديدي بقيادة عبد الله غول. وكان حزب السلامة الوطني بقيادة نجم الدين أربكان وحزب الحركة القومية برئاسة ألب أرسلان توركيش يرجحان أحد الحزبين على الآخر. ووقع انقلاب عسكري عام 1980 بقيادة كنعان أفرين، وحُظرت الأحزاب وسُجن قادتها، ثم جرت انتخابات عام 1983 وسيطر حزب الوطن الأم بقيادة تورغوت أوزال على الحياة السياسية حتى عام 1991 ثم عادت مرحلة من التشرذم السياسي واضطرت الأحزاب إلى الائتلاف لتشكيل الحكومات. وهكذا، فقد ظلت الديموقراطية التركية على الرغم من عراقتها واستمراريتها أسيرة سيطرة الجيش وتدخلاته؛ فقد أسس الجيش الدولة التركية الحديثة، وظل وحده القادر على حمايتها في مواجهة الأزمات مع الأكراد واليونان والأرمن، ولكنه غير قادر على حكم تركيا وإدارتها في ظل التعقيد السياسي والاجتماعي والتعددية العرقية والإثنية والأيدولوجية في تركيا، وظل محتاجاً إلى الديموقراطية والتعددية السياسية والحزبية. يشكل حزب العدالة والتنمية الحاكم اليوم في تركيا أنموذجاً تركياً جديداً في السياسة والعلاقة بين الإسلام والعلمانية، لعله أقرب إلى المصالحة، وربما تكون أنموذجاً للعالم الإسلامي الذي يشهد حالة من صعود الحركات الإسلامية التي بدأت تحكم مصر وتونسي، وبدأت تشكل قلقاً وتحديًا لكثير من الأنظمة السياسية في العالم العربي والإسلامي. ومن اللافت أن تركيا التي أوغلت في العلمانية، وتطرفت على يد أتاتورك في محاولة الابتعاد عن الإسلام، كانت هي المسرح المثالي لعودة الحركة الإسلامية إلى الحكم من خلال الانتخابات، وللمصالحة المتوقعة بعد هذه الحرب الضروس الطويلة التي استهلكت العالم الإسلامي أكثر من قرن من الزمان. أُسس حزب العدالة والتنمية بقيادة رجب طيب أردوغان و(72) عضواً مؤسساً، وكان أردوغان رئيس بلدية ناجحًا لإسطنبول في الفترة ما بين 1994 و1998، وسُجن مدة عام قبل أن يكمل فترته بسبب قراءته قصيدة وُصفت بأنها تثير العداء بين الناس، وهو يتميز بشخصية "كاريزمية" قيادية وتتقبله أغلبية المواطنين الأتراك. وكانت الفكرة الأساسية التي ينطلق منها حزب العدالة أنه يجب التخلي عن الخطاب الديني الذي التزمه حزب الفضيلة بقيادة أربكان، وأن يستخدم خطاباً يتفق مع الواقع التركي والعالمي أيضاً. وتقوم فكرة البرنامج على أن تركيا لديها شعب يتميز بالشباب والديناميكية، وتراث حكم عميق الجذور وشديد الغنى، وموقع جيوستراتيجي يمكن أن يساعدها على أن تلعب دوراً مؤثراً في منطقتها، وفرص سياحية مستمدة من التاريخ والجغرافيا، وشخصية وطنية قائمة على التدين والتضامن، وسجل من الإنجازات. فهل ينجح حزب العدالة فيما أخفق فيه أتاتورك وخلفاؤه من بعده في تحقيقه؟ لم تعد تركيا تقود العالم أو تشارك في قيادته كما كانت طوال أربعة قرون خلت قبل القرن العشرين، لكنها مازالت كلمة السر التي تشغل النظام العالمي، ومازالت قادرة على أن تكون قوة قيادية إقليمية بل وعالمية، فهي في موقعها وإمكانياتها وامتدادها في آسيا الوسطى والشرق الأوسط وأوروبا، قادرة على الدوام أن تبقى دولة مؤثرة في العالم، بل وقادرة على المشاركة في قيادته، فلأكثر من ثلاثة آلاف سنة كانت القسطنطينية أو اسطنبول، ولفترات قصيرة كانت جارتها أثينا أو شقيقتها روما، مركز العالم، اليونان والبيزنطيون والأتراك العثمانيون، يتطلع إليها الشرق المجاور المنافس كالفرس، والمغول، والتتار، وروسيا، مثل جوهرة عزيزة المنال، والنظام العالمي الجديد الذي تشكل بعد الحرب العالمية الأولى، إنما قام على انتصاره على تركيا أو على قلب الأرض، وبالمعنى الجيوسياسي؛ فقد عدت الحرب العالمية الأولى انتصاراً لحافة الأرض على قلب الأرض، وهو الانتصار الذي تحقق للمرة الأولى في التاريخ، حاول ذلك هانيبال عندما اكتشف الفينيقيون وطوروا القوة البحرية لتكون بديلاً استراتيجياً واقتصادياً للبر والقوات البرية، ولكن البحر حافة الأرض، وتمثلها اليوم الولايات المتحدة وبريطانيا واليابان وغيرها من الدول البحرية، لم يتغلب على قلب الأرض إلاّ في الحرب العالمية الأولى، ثم أكد انتصاره في الحرب العالمية الثانية، وحسمه بنهاية الحرب الباردة في أواخر ثمانينيات القرن العشرين، ولكن الولايات المتحدة تسعى لتأكيد انتصارها بالسيطرة على قلب الأرض بالإضافة إلى انتصاراتها السابقة، فكانت تلك الحرب المسماة "الحرب على الإرهاب" لتمتد إلى أوراسيا باحتلالها لأفغانستان وتهديد الصين وروسيا، وتفكيك التحالف السوفيتي القديم، وتمديد حلف الناتو إلى الشرق ألف كيلومتر عما كان عليه الحال قبل عام 1991، وكانت تظن أن تركيا ستكون أداتها القوية في التمدد والهيمنة، وحصان طروادة في الاتحاد الأوروبي، وقاعدتها المتقدمة في شرق أوروبا والمتوسط. ولكن تركيا رجحت أن تدير ظهرها للولايات المتحدة، وأن تدير وجهها للدول العربية والمتوسط وعمقها السكاني واللغوي والثقافي في آسيا الوسطى أو الأمة التركية، ولكنها في ذلك لم تحسم خطواتها ومواقفها، فلا هي تقدمت بحزم للتعاون الإقليمي والتحرك وفق معادلة الجغرافيا الأزلية، ولا واصلت تعاونها الاستراتيجي مع الولايات المتحدة وإسرائيل، وأوروبا أيضاً مازالت مترددة وخائفة إزاء المشاركة التركية، فتركيا هذا الشريك الكبير المسلم يمكن أن يغير وجه واتجاه أوروبا، ويمكن أن يعود إلى حليفه الإستراتيجي السابق "الولايات المتحدة الأمريكية"، فيعرقل فرص وأحلام أوروبا في التحول إلى قوة عالمية مستقلة عن الولايات المتحدة، وتعيد وجهة أوروبا نحو المتوسط، إفريقية والشرق الأوسط، وتضعف تلك الروابط التي تحولت إلى قيود وأصفاد مع الضفة الأخرى من الأطلسي. وتواجه تركيا اليوم خيارات لم تعد تمهلها وتسمح لها بالانتظار أو اللعب في الوقت الضائع، فهناك المشاركة في الحالة الإقليمية، وهناك أيضاً الإصلاحات السياسية المستحقة للمشاركة في الاتحاد الأوروبي، وأكثر من ذلك وأشد خطورة هناك الصراعات السياسية الداخلية التي تبتعد كثيراً عن معناها الموضوعي المفترض لتمضي في الابتزاز والتهديد والافتعال، فيمكن أن تعود عمليات العنف، وقد عادت بالفعل، لتضع الحكومة في مواجهة الجيش، أو تجعل الحكومة ضعيفة مهددة من قبل المتطرفين والمتمردين والانفصاليين، وهناك العناوين القومية الجامعة للأتراك مثل الهوية الوطنية وقبرص والتي تُتّخذ وسيلة لتمرير الضغوط ومنع الإصلاحات، تماماً مثل ما كانت القضية الفلسطينية والاحتلال والصراع مع الصهيونية غطاء عربياً للاستبداد والفساد ثم الهزيمة. أثار المجلس الأوروبي قضايا كثيرة تؤثر علىى الموقف السياسي والإقليمي لتركيا وفرصتها في الانضمام إلى المجلس الأوروبي؛ فقد انتقد النواب الأوروبيون بطء وتيرة الإصلاح في تركيا، على نحو يدعو للتساؤل، هل هو حث أوروبي يدعو تركيا لتمضي في الإصلاح لمناصرة الإصلاحيين أم لإثارة الأزمات الداخلية، ويشير التقرير إلى مخاوف بشأن أوضاع الأقليات الدينية والفساد والعنف ضد المرأة، وهو تقرير له أهمية كبيرة؛ لأنه سيكون أساساً لتقويم جهود أنقرة الإصلاحية في المفوضية الأوروبية. وذكر التقرير أمثلة على التجاوزات والتراجع في الحريات مثل محاكمة الصحفي الأرمني التركي هارنت دينك، الذي حكم عليه بالسجن ستة أشهر مع وقف التنفيذ بسبب تصريحات حول قيام الدولة العثمانية التركية بإبادة جماعية للأرمن أثناء الحرب العالمية الأولى، ولم يتحقق تقدم في مجالات مطلوبة ومحددة، مثل العلاقات المدنية العسكرية، وتنفيذ القوانين، وقضايا المرأة والنقابات واستقلالية القضاء، ولكنه لم يخل من إشارات إيجابية مثل تبرئة أكاديميين حوكموا بتهمة إهانة القومية التركية. وحذر مسؤولون أوروبيون، مثل أولي رين مفوض شؤون توسعة الاتحاد الأوروبي، أنقرة من أنها بحاجة إلى الإسراع في تنفيذ وعودها وجهودها الإصلاحية وفق معايير الاتحاد الأوروبي، والتي طلب من تركيا تنفيذها في قائمة مطالب محددة وموصوفة. وتنفي أنقرة تهم الإبطاء في تنفيذ الإصلاحات، وقالت: إنها استدعت البرلمان من عطلته الصيفية للانعقاد قبل موعده بأسبوعين في منتصف أيلول القادم لإقرار مجموعة من الإصلاحات. وبدأ الجيش التركي منذ مجيء حزب العدالة والتنمية يبتعد تدريجياً عن السياسة، حتى إن قادة القوات المسلحة رفضوا نداء وجهه لهم زعيم حزب الحركة القومية اليمني دولت بهجلي، ناشدهم فيه تحمل مسؤولياتهم التاريخية لحماية النظام العلماني في البلاد، وقد أعاد الجنرالات الرسالة التي بعث بها بهجلي إليه دون تعليق أو رد عليها، مما اعتبرته الأوساط التركية موقفاً واضحاً من قيادات الجيش بعدم الرغبة في التدخل في الشؤون السياسية. وكان بهجلي قد وجه رسالته إلى قادة القوات المسلحة وعدد كبير من جنرالات الجيش والمسؤولين في مختلف أجهزة الدولة، وفي مقدمتها القضاء والجامعات، دعاهم فيها للعمل المشترك والتصدي لسياسات حكومة أردوغان التي تستهدف ما وصفه بـ "النظام الديموقراطي العلماني القائم في البلاد". ويعكس موقف الجيش من رسالة بهجلي جانباً من التحولات المحيطة بدور الجيش في تركيا، وهو القوة التي طالما وُصفت بأنها حامية النظام العلماني الديموقراطي الذي أقامه أتاتورك في تركيا بعد الحرب العالمية الأولى. وجاء هذا التحول نتيجة لبيئة سياسية واجتماعية جديدة داخلية وخارجية، من أهم ملامحها انهيار الطبقة السياسية التقليدية في تركيا التي كانت الواجهة العلنية لتدخلات الجيش في السياسة التركية، وصعود الاتجاهات الإسلامية الإصلاحية، وقدرتهم على العمل مع جميع الاتجاهات والقوى بما فيها الجيش باعتدال ومرونة، وتغير الاتجاهات الشعبية والمجتمعية مع تنامي الإعلام المفتوح والعولمة، وتراجع الدور الأمني للجيش بعد تراجع نشاط حزب العمال الكردستاني في شرق الأناضول، واعتقال زعيمه عبد الله أوجلان في العام 1998، وتوجه الأكراد الأتراك إلى نضال سلمي ديموقراطي في إطار الدولة التركية، وتراجع التهديد على أمن الدولة بعد تغير سياسات ومواقف كثير من الدول التي كانت تشكل تحدياً لتركيا مثل، الاتحاد السوفيتي السابق واليونان والعراق وروسيا وإيران، وقد بدأت تركيا بالفعل بقيادة حزب العدالة والتنمية بترتيب علاقات سياسية أساسها الاقتصاد وتسوية المشاكل بالطرق السلمية مع دول الجوار على نحو ما حدث في العلاقات مع اليونان وإيران وسورية. وكان للمساعي التركية للمشاركة في الاتحاد الأوروبي دور كبير ومهم في تراجع الدور السياسي للجيش انسجاماً مع المطالب الإصلاحية والديموقراطية للاتحاد الأوروبي شرطًا للدخول في الاتحاد. وأُجريت تعديلات إدارية ودستورية وقانونية من بينها زيادة عدد المدنيين في مجلس الأمن القومي إلى تسعة أشخاص مقابل خمسة من العسكريين، واختيار مدني أميناً عاماً للمجلس لأول مرة منذ تأسيسه عام 1938، وتكليف الأمين العام إعداد برنامج اجتماعات المجلس كل شهرين مرة بدلاً من كل شهر مرة بالتنسيق المباشر مع رئيس الوزراء، وليس مع رئيس الأركان كما كان في السابق. ومن التعديلات التي غيرت موقع الجيش ومكانته في الحياة السياسية إخضاع موازنته لرقابة ومحاسبة القضاء والبرلمان، وتوقف سياسة الميزانية المفتوحة بلا رقابة للجيش في أثناء مواجهة التهديدات والمواجهات والمناورات السرية والغامضة مع الدول والجماعات والأجهزة الأمنية والاستخبارية. وشهدت المؤسسة العسكرية نفسها تحولات داخلية؛ فقد صعدت إلى قيادتها الاتجاهات التي تتبنى دوراً أقل للجيش في الحياة السياسية، وتعزيز دور الجيش ليكون قوة عسكرية فحسب. وكان تعيين الفريق أول حلمي أوزكوك بمنصب رئاسة الأركان تعبيراً عن توجه إصلاحي في داخل قيادة الجيش، فهو، أي أوزكوك، يؤيد بقاء الجيش خارج اللعبة السياسية، مما ترك أثره في مواقف جنرالات الجيش المعروف عنهم تشدّدهم في موضوع العلمانية الأتاتوركية، وكان من نتائج هذا التوجه سلسلة تغييرات في المناصب والأشخاص وتعيينات وترقيات اتخذها مجلس الشورى العسكري، ومنها ترقية (77) جنرالاً من الشخصيات المعروف عنها رفضها لأي تدخل للجيش في السياسة. ولكن بقيت تظهر مجموعة من أعمال العنف بعد تراجع كبير أصابها، وينظر بعض المحللين إلى هذه العملية بريبة ويجدونها غامضة، وربما تكون مدبرة لتبرير تدخل الجيش في الحياة السياسية، وتقليص دور الأحزاب السياسية وبخاصة حزب العدالة والتنمية، وأحيانًا ينظر إليها على أنها مرتبطة بمواقف ونشاطات دولية خارجية، فقد أعلن في الفترة القريبة الماضية عن قصف جوي لقواعد حزب العمال الكردستاني في الأراضي العراقية، وأعلن أيضاً عن انفجار في قاعدة عسكرية تركية أودى بحياة شخص، وانفجار آخر في استنبول، وانفجار في مكتب تابع للحزب الحاكم، وانفجار آخر أدى إلى مقتل تسعة من عمال المناجم. وأعلن تنظيم (صقور كردستان)، وهو تنظيم غامض ظهر على الساحة قبل عام واحد مسؤوليته عن تفجيرات دموية في مدينتين سياحيتين، هما أنطاليا ومرمريس، أسفرتا عن مقتل أربعة أشخاص وجرح تسعة آخرين، وكان التنظيم المذكور قد أعلن مسؤوليته عن عملية وقعت قبل عام، وذهب ضحيتها تسعة سياح بريطانيين. وينفي حزب العمال الكردستاني وجود صلات بينه وبين تنظيم صقور كردستان، وانتقد استهداف المدنيين والسياح وإساءة العلاقة بين الأكراد ودول أوروبية قد تؤيد القضايا الكردية. وتعتقد جهات سياسية كردية بأن الجنرالات والجيوب العسكرية والاستخبارية التركية تقف وراء عصابات قومية تضم عسكريين، وتنفذ تفجيرات وتصفيات لإلقاء اللوم على الأحزاب الكردية، ومن ذلك، قيام ضابطين في الجيش بتفجير مكتبة كردية في مدينة شمدينلي باستخدام قنابل كان الجيش قد غنمها إثر معارك مع عناصر حزب العمال الكردستاني، واعترف الجنرال بيوك أنيت بأن الضابطين المنفذين للعملية من أتباعه المقربين إليه، إضافة إلى أن قوات الأمن لم تلقِ القبض حتى الآن على أي من المنتمين إلى تنظيم "صقور كردستان"، وهو ما يجعل البعض من الأوساط الكردية والسياسية أيضاً ينظر بعين الشك والريبة إلى من يقف وراء ذلك التنظيم وأهداف عملياته. وقد وجهت قبل ستة أشهر فقط إلى الجنرال بيوك أنيت تهم تشكيل عصابات وسوء استخدام صلاحياته والتزوير والإثراء غير المشروع، وهي أخطر تهم وجهت إلى عسكري في تاريخ تركيا، وكان مدعي النيابة الجمهوري فرحات ساري قد بدأ تحريات وتحقيقات حول بيوك أنيت. وجاء في مذكرة المدعي الجمهوري أن العديد من الشهود قالوا: إن بيوك أنيت شكل عصابة داخل الجيش خلال الفترة بين ۱۹۹۷ -۲۰۰۰، وذلك لابتزاز التجار والأثرياء الأكراد في جنوب شرقي تركيا والاستيلاء على أموالهم، وأثار هذا الاتهام ضجة سياسية كبيرة في تركيا، خصوصاً أن عدداً من النواب الذين حققوا في الانفجار الذي وقع في شمدنلي دعموا الاتهام واعتبروه جريئاً، فيما اعتبره زعيم المعارضة دنيز بايكال انقلاباً تعده الحكومة داخل الجيش للتخلص من بيوك أنيت المعروف بتشدده وتدخله في أمور السياسة ومعارضته لانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي من خلال تصريحات نارية يدلي بها للصحافة من وقت لآخر. وقد صرح بيوك أنيت للصحافة بأن الجيش سيقضي على أحلام القوى الرجعية التي تحلم بإقامة جمهورية من نوع جديد وغريب في تركيا، ووصف المسؤولين الذين يحاولون تحجيم دور الجيش بأنهم حقيرين وسيدفعون ثمن تصرفاتهم. تواجه الحكومة التركية اليوم مجموعة من المواقف والخيارات التي قد تؤدي إلى اشتباك واختلاف مع المؤسسة العسكرية، مثل الدور التركي الإقليمي، والانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وإعادة تنظيم المجتمع والدولة على أساس يقلل من دور المؤسسة العسكرية ويدمج المجموعات العرقية التي كانت مهمشة مثل الكرد والعرب والأقليات العرقية والإثنية مثل العلويين والأرمن واليونان والأذريين في الدولة والمجتمع، بالإضافة إلى مجموعة من المواقف التي تثير خلافات وأزمة حادة، مثل الحجاب والمظاهر العلمانية والدينية في الدولة والمجتمع. وأصبح واضحًا اليوم أن الأمور والحياة السياسية والعامة لن تعود إلى منتصف التسعينيات؛ فقد دارت عجلة الإصلاح السياسي في تركيا، وأصبح الحزب الحاكم يتمتع بأغلبية برلمانية مريحة، وانحسرت طبقات سياسية، ونشأت نخبة صاعدة بديلة لا تجد مصالحها وأهدافها في التحالف مع العلمانية العسكرية، ودخلت تركيا في مشروعات إصلاحية يصعب تصور العودة عنها لأجل التأهل للمشاركة في الاتحاد الأوروبي. ويتشكل اليوم سؤال رئيس وملح عن الأنموذج الإسلامي للدولة والحكم، هو إلى أي مدى يمكن أن تكون التجربة التركية في ظل العدالة والتنمية أنموذجًا يحتذى في الدول العربية والإسلامية؟ إن الحركة الإسلامية تحكم اليوم في مصر وتونس، وهي شريك رئيس في الحكم في المغرب، وهناك من قبل نماذج إسلامية، مثل إيران والسودان والسعودية وباكستان، وشاركت الحركة الإسلامية في الحكم في دول عدة، مثل الأردن واليمن وماليزيا وإندونيسيا والكويت والجزائر. وكانت جميع هذه المشاركات والمواقف متعددة الصيغ والتمظهر على نحو يشجع على التأكيد أن الأنموذج الإسلامي في الحكم ليس واحدًا، وأن الفهم الصحيح للحكم والدولة في الإسلام يجب أن يفهم على أنها دولة مسلمين وليست دولة إسلامية. وستركز هذه الدراسة على التجربة التركية باعتبارها الأنموذج المعبر عن وصول الحركة الإسلامية إلى الحكم على أساس الانتخابات، وباعتبار تركيا مركز آخر دولة إسلامية كانت تقود العالم الإسلامي حوالي 600 سنة، وكانت في مرحلة من التاريخ الدولة الأكثر أهمية في العالم. وتقوم الدراسة على رؤية لنائب رئيس حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا، وهو مراد ميرغان، وهو أيضا عضو في مجلس النواب التركي، ورئيس الوفد التركي البرلماني إلى المجلس الأوروبي، التي قدمها في مؤتمر الأحزاب السياسية والتنمية المنعقد في عمان في الأيام القليلة الماضية. حزب العدالة والتنمية كانت الفكرة الأساسية لحزب العدالة أنه يجب التخلي عن الخطاب الديني الذي التزمه حزب الفضيلة بقيادة أربكان، وأن يستخدم خطابًا يتفق مع الواقع التركي والعالمي أيضًا، ويعبر عن حزب العدالة والتنمية برنامجه الذي يعالج قضايا تركيا الاقتصادية والسياسية والاجتماعية ومستقبل المواطنين الأتراك. وقد جرت استطلاعات للرأي واسعة جدًا للتعرف على احتياجات الناس ومطالبهم وتوقعاتهم من الحزب. وتقوم فكرة البرنامج على أن مشاكل تركيا ليست مستعصية الحل، طالما أن تركيا لديها موارد طبيعية غنية فوق الأرض وتحتها، ولديها شعب يتميز بالشباب والديناميكية، وتراث حكم عميق الجذور وشديد الغنى، وموقع جيوستراتيجي يمكن أن يساعدها على أن تلعب دورًا مؤثرًا في منطقتها، وفرص سياحية مستمدة من التاريخ والجغرافيا، وشخصية وطنية قائمة على التدين والتضامن، وسجل من الإنجازات. وقد حظي هذا البرنامج بقبول شعبي كبير عبرت عنه الانتخابات النيابية التي جرت عام 2002. ويهدف الحزب إلى تقديم حلول أصيلة ودائمة لمشاكل تركيا بالتوازي مع الوقائع العالمية, ومن خلال التراكم التراثي والتاريخي, وجعل غرض الخدمة العامة الأساسي هو القيام بالنشاطات السياسية في برنامج من القيم الديمقراطية المعاصرة, بدلاً من البرامج الأيدولوجية. وعلى هذا الأساس، فإن حزب العدالة والتنمية ينظر بمساواة وعدل إلى جميع المواطنين الأتراك بغض النظر عن الجنس والأصول الإثنية, والمعتقدات والآراء. وعلى أساس هذا المفهوم التعددي، فإن الأهداف الأساسية للحزب تأتي في تطوير وعي المواطنة والاشتراك مع جميع الأتراك بامتلاك الوطن الذي يعيشون فيه والانتماء إليه. ومن مبادئ الحزب الرئيسة، المثل القائل: إن لم يكن الجميع أحرارًا فما من أحد حر, فالحزب يعد أحد مهامه الأساسية تأكيد الديمقراطية عن طريق دمقرطة الفرد، وتوفير وحماية حقوق الإنسان الأساسية. إن الجمهورية التركية في نظر حزب العدالة والتنمية تقوم على العلمانية والديمقراطية والقانون والعمليات الاجتماعية والحضارية وحرية المعتقد وتكافؤ الفرص. وللحزب فروع محلية في 81 منطقة وأكثر من 3000 بلدة, بمجموع يبلغ ثلاثة ملايين عضو. حكومة حزب العدالة والتنمية جرت الانتخابات العامة يوم الثالث تشرين الثاني لعام 2002 وكانت نتيجتها مذهلة، فقد حصل حزب العدالة والتنمية على 34% من الأصوات وأحرز 365 مقعدًا من أصل 550، وأحرز حزب الشعب الجمهوري على 176 مقعدا و19% من الأًصوات. وفاز ببقية المقاعد مرشحون مستقلون. وشكل عبد الله غل الحكومة التركية, لأن أردوغان كان قد منع من الترشيح للانتخابات، ثم أزال البرلمان منع أردوغان، فأصبح رئيسًا للوزراء. ومنذ تسلم الحزب السلطة وشعبيته آخذة في الازدياد، وفي آخر انتخابات محلية جرت يوم 28 آذار 2004 أحرز الحزب 42% من الأصوات في جميع أنحاء البلاد. السياسات العامة لحكومة العدالة والتنمية يعمل الحزب لتحقيق المبادئ التالية في السياسة الداخلية: 1- الديمقراطية والعلمانية وحكم القانون هي المبادئ الأساسية للجمهورية، فالحزب يؤمن بأن الازدهار والرفاه يقومان على تطبيق المبادئ المذكورة سابقًا تطبيقًا كاملاً، وأن الانفتاح والشفافية هما مبدآن حيويان للحكومة, فالقطاع العام يموله المواطنون, ولهم الحق في معرفة أين وكيف يتم إنفاق أموالهم, وضمن هذا السياق أجرى الحزب تغييرات في الدستور والنظام القضائي لتعزيز الديمقراطية وتقوية الشفافية في فترة وجيزة جدًا. 2- كل مواطن في تركيا يستحق كامل حرية الرأي والمعتقد والفكر, ويجب أن يكون قادرًا على التعبير عنها بحرية. 3- يجب أن يكون للمواطنين الحق في تشكيل اتحادات ليعيشوا ثقافاتهم الخاصة كما يشاؤون، ولن يكون هناك تمييز على أساس الجنس والأصل الإثني والدين واللغة. 4- لن يكون هناك حزب سياسي يقوم على الدين أو القومية، فهما قيمتان جامعتان للمجتمع, الدين هو قيمة يشترك فيها الناس، فهو فوق جميع الاهتمامات السياسية، والأحزاب السياسية التي تعمل على استثماره تقود الناس والمجتمع إلى الانقسام. وباعتبار أن الحزب يعرف نفسه بأنه ديمقراطي محافظ، فإنه يعمل على احترام وتعزيز الثقافة وقيم المجتمع التراثية والاجتماعية, في نفس الوقت الذي يعمل فيه على تحديث وتحسين مستوى الحياة في المجتمع، ويعتقد أن هذه القيم لا تتعارض بعضها مع بعض. 5- العمل على رفع تركيا إلى مستوى الدول المتقدمة, ولتحقيق هذا الهدف يجب أن تجرى إصلاحات بنيوية "رئيسة" في القطاع العام والاقتصاد, وهكذا يشكل تطبيق اقتصاد السوق الحر والخصخصة، وزيادة فاعلية القطاع العام أهدافًا رئيسة للحزب. لقد مرت تركيا بأزمة "حادة" عام 2000، أدت إلى تراجع الاقتصاد وخلل في توزيع الثروة, وكان الفساد متمكنًا، واستولت الدولة على العديد من البنوك الخاصة, بسبب سوء تصرفها، فقد عرضها مالكوها إلى إفلاس وتفريغ متعمد من الأموال، متسببين في خسائر كلفت تركيا حوالي 30 مليون دولار أميركي. وقد غيرت حكومة العدالة والتنمية في القوانين لتجعل من أصحاب البنوك مسؤولين عن سوء تصرفاتهم, وتواصل الحكومة العمل والتنسيق مع صندوق النقد الدولي لتحقيق انخفاض في معدلات التضخم والفائدة. ويعتقد قادة الحزب أن الاقتصاد التركي الآن مستقر، وأن التصدير والاستيراد في حالة ازدهار. وقد أخذ الاقتصاد في النمو بمعدل 5% سنويًا. وفي مجال السياسة الخارجية، يقول ميرغان نائب رئيس الحزب: "إننا نعيش في عهد جديد في السياسة الدولية يمكن تعريفه بزيادة العلاقات بين الدول وضمن المنطقة, والتكامل في العالم المتعولم، وذلك يجعل الديمقراطية والحكم الصالح هما المبدأين الأساسيين للمجتمع الدولي". والدول التي لا تتبنى هذه المبادئ، سوف تعاني اقتصاديًا واجتماعيًا, وفي المقابل فإننا نستطيع أن نبني مستقبلاً أفضل لمواطنينا وبلادنا حين نطبق بالكامل هذه المبادئ؛ ولذلك، فإننا ومن أعماق قلوبنا ندعم القيام بهذه التغييرات في كل مجتمع. ويلخص ميرغان أهداف حكومته في السياسة الخارجية في: 1- تغير البنية الديناميكية لظروف العالم يفرض تأسيس علاقات عقلانية وتعزيز هذه العلاقات. 2- الافتقار إلى السلام والاستقرار في منطقتنا يؤثر مباشرة على مجتمعنا, ولذا يجب على تركيا أن تكون فاعلة في وقف الصراع وتأمين الاستقرار في المنطقة. 3- التحديث مشروع دائم لتركيا، وأصبحت هذه القضية سياسة رسمية للدولة مع تأسيس الجمهورية، وجهود التحديث حين لا تعرض للخطر تراث ومعتقدات الناس تكون موضع تقدير لديهم. ومن التداعيات الطبيعية للتحديث بالنسبة لتركيا هي أن تكون عضوًا في الاتحاد الأوروبي, ويريد معظم الشعب التركي (أكثر من 75%) هذه العضوية؛ لذا فإن تركيا تبذل قصارى جهدها لإجراء التحول الضروري من أجل البدء في محادثات القبول. 4- يقول رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان عن الديمقراطية في الشرق الأوسط: "إنني لا أشارك في النظرة التي ترى أن الثقافة الإسلامية والديمقراطية لا يمكن أن يتصالحا, فالسياسي الذي يحترم القناعات الدينية في محيطه الشخصي, وينظر إلى السياسة باعتبارها مجالاً خارج الدين، إنما يحمل نظرة مختلة تمامًا. فالديمقراطية في الشرق الأوسط هي هدف يجب بلوغه، والسؤال ليس عما إذا كانت تلك الدمقرطة ممكنة, بل بدلاً من ذلك كيف نلبي توق الجماهير في الشرق الأوسط إلى الديمقراطية؟ وبكلمات أخرى، كيف نحقق الديمقراطية في المنطقة؟ الحركة الإسلامية في تركيا حزب تركي إن المحصلة الرئيسة التي يمكن استخلاصها من تجربة الحركة الإسلامية في تركيا، هي أنها تفاعل مع الزمان والمكان. وعلى هذا الأساس، فإن تجربة حركة طالبان في الحكم مستمدة من ظروف الانغلاق والعزلة والتخلف والفقر التي عاشتها أفغانستان قرونًا متواصلة، فالأفكار والبرامج تحل في الزمان والمكان وتتفاعل معهما. إن الكثير من المثقفين والباحثين يظنون أن الإسلام يقدم قواعد وأفكارًا ونظريات شاملة وجاهزة، وأن الاجتهاد السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي مستمد فقط من فهم النصوص والمراجع ودراستها، ولا يدركون أن النظام الإسلامي تفاعل إيجابي وسليم بين الفكر والعقيدة والثقافة والدعوة والتحرك بها وسط الواقع والبيئة والمتغيرات والمحددات الكثيرة والممتدة والمتجددة. ولذلك، فإن النظام الاجتماعي الإسلامي ينمو ويتجدد، ويضمر ويتراجع، ويبدع ويتخلف حسب واقع وحال البيئة المحيطة به من ناس ومجتمعات وحضارة وفاعلية اجتماعية. يقدم أنموذجًا جديدًا مختلفًا عن الخلافة الإسلامية وعن الأتاتوركية العلمانية.