القرار الأمريكي حول القدس لا يمثل عدوانا سافرا على المدينة وتاريخها، وحاضرها ومستقبلها فحسب، بل يشكل صفعة من العيار الثقيل لحلفاء واشنطن في المنطقة الموصوفين بأعداء أو خصوم إيران. وستكون لهذا القرار تداعيات وارتدادات جيواستراتيجية، منها ما يرفع شأن طهران ويزيد من نفوذها المتصاعد أصلا في الإقليم والمنطقة، وفي المقابل يهوي بشأن خصومها إلى الهاوية، بعد أن وصل تحالفهم مع الولايات المتحدة الأمريكية إلى مرحلة في غاية الخطورة، تمس العالمين العربي والإسلامي في معتقداته وتاريخه وحضارته.
ولم تعد تسعفهم "الشماعة الإيرانية" التي يتم توظيفها في التغطية على الفشل وأهداف شخصية وتبرير عملية التطبيع، وليس في مواجهة ما يعتبرونه الخطر الإيراني. لا شك في أن الموقف الأمريكي الجديد حول القدس يشفع لقراءة إيران حول مجمل الأوضاع في المنطقة منذ عام 2011، التي سمعناها مرارا وتكرارا، وهذا ما يركز عليه الإعلام الإيراني المحلي والخارجي هذه الأيام، إذ يرى في الموقف انتصارا لقرائتها هذه وسياساتها الإقليمية.
وهذا يخدم محورها ونفوذها، ما دفع "استيفان والت" استاذ جامعة هارفارد، يتساؤل مستغربا في تغريدة له، عن جدوى قرار نقل السفارة للقدس، وأنه كيف يقلّل من نفوذ إيران ويزيد من نفوذ الولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط؟ بطبيعة الحال، القرار والضعف العربي الرسمي في مواجهته، سيحقق مزيدا من التقارب بين إيران وفصائل المقاومة الفلسطينية، وحتى مع أحزاب وجماعات أخرى في العالمين العربي والإسلامي، تكّن العداء للكيان الصهيوني، أحدثت حوادث المنطقة شرخا كبيرا بينها وبين طهران.
لكن الأمر لا يتوقف عند ذلك، بل أن القرار أيضا سيضع خصوم إيران في المنطقة في موقف لا يحسدون عليه، بعد أن أصبحوا يتلقون ضربات واحدة تلو الأخرى في ساحات عدة بسبب سياسة تغييب الشعوب ومحاربة قواها الفاعلة.
ميوعة موقف الدول والقوى العربية الوازنة، وعدم حسمه مقابل هذا الحدث الجلل، يضعها في موقف محرج أمام إيران التي ستسعى إلى توظيف ذلك في خدمة خطها الإقليمي وإسناده بموقفها المتقدم في الوقوف ضد القرار الأمريكي.
هذا في حال لم نسلم لروايات الإعلام الغربي والإسرائيلي حول علم دول وقوى بالقرار ومشاركتها في صياغته، إما إن كانت تلك التقارير صحيحة فالمصيبة أعظم. وفي هذا السياق، ومن الملفت والطريف تأكيد إيران اليوم على لسان وزير خارجيتها محمد جواد ظريف على "عروبة القدس" في تغريدة له على توييتر، التي حملت دلالات سياسية ورسائل لاذعة في كل حد وصوب، ذلك بعيد القرار العدواني الأمريكي بشأن هذه المدينة المقدسة، بينما مصر المعروفة بعاصمة العروبة، يتجنب رئيسها في أول ظهور إعلامي له بعد صدور القرار الأمريكي، أدنى إشارة للقدس. فأسهب عبدالفتاح السيسي في حديثه في جلسة افتتاح منتدى رواد الأعمال بإفريقيا بشرم الشيخ، دون أي ذكر أو تلميح لهذا القرار، كأن الموضوع لا يعنيه ومصر، لا من بعيد ولا من قريب.
كما أن الموقف السعودي أيضا، وحتى لحظة كتابة هذه السطور، لم يرتق إلى مستوى الحدث، فاكتفاء الرياض ببيان وتصريحات باهتة دون إجراء عملي، لا ينجسم مع الموقف التاريخي والمشرّف للملك الراحل فيصل بن عبدالعزيز عام 1973، الذي قدم حياته لأجل القدس. أقل ما يمكن أن تفعله السعودية، هو استدعاء السفير الأمريكي، كما فعل ذلك كل من العراق، وتونس والمغرب، وهو موقف يشكرون عليه، رغم أنه يلبي أدنى مطالب الشارع العربي والإسلامي اليوم فقط، أما بقاء الموقف السعودي بهذا المستوى فإن هذا يتعارض مع شرعية الجغرافيا التي تمثلها المملكة، إذ أن خلو بيانها وتصريحات مسؤوليها من أدنى إشارة لإسلامية الحرم الإسلامي الثالث، يعرضها لتساؤل منطقي أمام الرأي العام الإسلامي. في مثل هذه النوازل التي تبتلى بها الأمة، الأنظار في الوهلة الأولى تتجه نحو السعودية وعلمائها بحكم الموقع الديني للمملكة، واحتضانها الحرمين الشريفين، قبل أي دولة أخرى.
لكن المؤسف جدا أنه لم يحتل قرار ترامب بشأن القدس حيزا يستحقه في خطبة الجمعة اليوم 8 تشرين الأول في الحرمين الشريفين، بينما تصدّر الموضوع خطب الجمعة في العالم الإسلامي كافة، بما فيه إيران، وبينما أطلق كبار علماء الشيعة في المنطقة مواقف رافضة، لم نسمع ما يشفي الصدور ويسمن ويغني من الجوع من علماء السعودية.
وليس غريبا اليوم أن تركز إيران باعتبارها دولة إسلامية على عروبة القدس، ولكن الغريب هو هرولة قوى ودول في المنطقة العربية نحو التطبيع مع "إسرائيل"، والمسعى لإقناع الرئيس محمود عباس باستبدال أبوديس كعاصمة بالقدس، فلولا هذا الخذلان لما تجرأ الرئيس الأمريكي أن يقدم على فعلته الشنيعة هذه، وهذا ما زايد به وزير الخارجية الإيراني على خصوم بلده، بقوله أنه لو لا تلك السياسات الخاطئة لبعض الحكام في المنطقة لما كنا نواجه اليوم هذا الصلف الأمريكي الذي يحاول وعد من لا يملك لمن لايستحق، كما يقول.
لذلك مهما كانت الخلافات مع إيران على القضايا الإقليمية، فموقفها الداعم لفلسطين، محل تقدير، والمطلوب اليوم أن تتوحد كلمة الجميع مسلمين ومسيحيين في مواجهة العنجهية الترامبية لما تحمل القدس من رمزية لدى الكل، وفي حال ظل الإصرار على وضعية العداء، فذلك أيضا يستدعي من هذه القوى أقوى المواقف لنصرة القدس وفلسطين، وليس التخلي عن ذلك وترك الساحة.
الخلاصة أن الإدارة الأمريكية سحبت بقرار رئيسها حول القدس، البساط من تحت أقدام أعداء إيران، وزادت من أوراق الأخيرة الإقليمية، بعد أن قبرت بهذا القرار عملية التسوية والمبادرة العربية للسلام المرفوضة إيرانيا، وجعلت المقاومة الخيار الأوحد في مواجهة التحديات، فجملة هذه التطورات تُفقد خصوم إيران أوراقها واحدة تلو الأخرى، وتشكل فرصة ثمينة للمحور الإيراني لتغزيز نفوذه، وتحسين صورته المتضررة بفعل الأحداث في المنطقة، ولاسيما سوريا خلال الأعوام الماضية.
ثم على القوى المتحالفة مع الإدارة الأمريكية، والتي تتعرض لإهانات بهذه الطريقة الفجة، مراجعة سياساتها بعد استخلاص دروس وعبر من سلوك واشنطن وسياساتها الشرق أوسطية، التي بقدر ما حصدت منها هذه القوى الخيبات والفشل، حصت إيران الانجازات والنجاح بفعل تحرير سياساتها من المؤثر الأمريكي.
ولعل هنا من الجدير النظر إلى رسالة بعثها مدير الاستخبارات المركزية الأمريكية "مايك بومبيو" إلى الجنرال الإيراني الأكثر نفوذا في المنطقة "قاسيم سليماني" قبل فترة، استجدى فيها الأخير عدم اقتراب القوات الإيرانية من القوات الأمريكية في العراق وسوريا، لكي لا يشكل ذلك حرجا للولايات المتحدة الأمريكية أمام العالم، بسبب عجز الأخيرة عن المواجهة، أقله في الوقت الحاضر. فجاء رد سليماني الصاعق على الرسالة، بتجاهلها، وإعادتها عبر الوسيط دون أن يفتحها، وهذا ما اعترف به بومبيو بقوله إنه لم يحزن على ما فعله الجنرال سليماني.
الآراء