يسعى الإسلام بقرآنه وسنة نبيه، وبكل تعاليمه وتوجيهاته، إلى تكملة تحرير العقل البشرى من كل ما هو مُسلط عليه، ومعطل له عن الإنتاج النافع، وهنا يحرره نهائيا من سلطان اتباع الجماهير الغافلة، من عامة الناس، الذين كثيرا ما يسيرون وراء الآباء، أو وراء الكبراء، أو وراء الأساتذة والشيوخ، الذين اعتبروا أنهم يفكرون لهم، وأنهم كأنما أعطَوْا عقولَهم إجازة طويلة، ليس عليهم فيها أن يفكروا، ولا أن يناقشوا، ولا أن يسألوا، ولا أن يُضيئوا هذه الشمعة وقتا ما ليستفيدوا من نورها. فمن العجب العاجب، أن ترى بعض الناس فى مجتمعاتنا تغلق عقولها، ولا تسمح لها بأن تنفتح يوما للعمل والتفكير؛ لأنه قد أراح نفسه من ذلك، حيث قد حدد موقفه مقدما تحديدا دقيقا صارما، وهو: أن يكون مع الناس، مع الأكثرية، إن قالوا فى أمر: نعم، قال: ( نعم ). وإن قالوا فى أمر: لا. قال بكل بساطة: ( لا ). أما هو - كإنسان له عقله وفكره وثقافته ودينه ورسالته - فليس له فى الحقيقة موقف.
وهذا أمر مؤسف حقا: أن يتنازل الناس عن تفكيرهم، وعن شخصيتهم، وعن مسؤوليتهم، مع أن كل إنسان مسؤول عن نفسه، ليس أحد مسؤولا عنه: "كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ" [المدثر:38]. وهذا ما حذر منه نبى الإسلام محمد عليه الصلاة والسلام، فقال: [لا تكونوا إمعة، تقولون: إن أحسن الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطِّنوا أنفسكم، إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا فلا تظلموا]. بهذا ارتفع الإسلام بموقف الإنسان، بحيث يكون له موقفه المحدد، ويكون له قراره الخاص، ويكون له رأيه المعلن، ليس تابعا لفرد ولا مجموعة، بحيث تفقده عقله ورشده، وتفكر عوضا عنه، فتتخذ له قراره هو، ولا يتخذه لنفسه. وهذا ما يشيع وينتشر فى البلاد التى تفقد فيها الحريات العامة، وبعض الناس فيها مسوقون إلى ما يُراد لهم، لا إلى ما يريدون هم لأنفسهم، فكلهم غدَوْا (إمّعاتٍ) مع ما يريده الفرعون، وليس مع ما يراه عقله هو، يُكذّب الأنبياء إذا كذّبهم السلطانُ، ويصدّق الشيطانَ إذا صدّق الناسُ الشيطانَ. ورحم الله شوقى حين عبر عن موقف هؤلاء فى (مجنون ليلى) فقال على لسان بعض هؤلاء:
أحبُّ الحُـسيـن، ولكنــنى*** لسانى علـيـه، وقلبى معـه
إذا الفتنة اضطرمتْ فى البلاد *** ورُمتَ النجاة، فكـن إمّعــة
والإسلام لا يرحّب بهذه الفئات، بل يعاديها، ويحارب كثرتها، فإنها تهدم ولا تبنى، وتُميت ولا تُحيى، وتُضعف ولا تُقوّى. وتقوم دعوة الإسلام، وتربية الإسلام، وتشريع الإسلام، على أن يعيش الناس كما خلقهم الله، بعقولهم، ومواهبهم وضمائرهم، فقد أنزل الله كتابه، وبعث رسله، وخلق كونه، ومنح قوانينه، لـ (قوم يعقلون)، ولـ (أولى الألباب). ــــــــ - عن كتاب "موقف الإسلام من العقل والعلم"، للشيخ القرضاوي.
الآراء