في ظل أجواء "الربيع العربي"، وما تُعانيه الشعوب العربية والإسلامية من ظلم وقهر قامت ضده ثورات عديدة ومازالت, كثر الحديث عن الاستبداد, وراج ذكر هذا المصطلح على لسان العديد من الشيب والشباب؛ غير أن هذه الظاهرة المرضية لا تخص جانب السياسة وحده؛ بل تشمل مختلف مجالات الحياة، فقد نجد رب الأسرة المستبد، والزوج المستبد، ورب العمل المستبد، والزعيم المستبد، ورئيس الجمعية المستبد، ومسؤول المؤسسة المستبد وغير ذلك.. والغريب في أمر المصابين بمرض التجبر أن صفاتهم النفسية خصوصاً تشترك بين المستبدين قديماً وحديثاً، كما يشتركون في المآلات التي ينتهون إليها، وتلك سُنة كونية قدرية لا تقبل التبديل ولا التغيير "وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً" (الأحزاب: 62)، في هذا السياق تأتي هذه المقالة لبيان نفسيات المستبدين والمآلات التي يؤولون إليها، من خلال تأملات في قصة فرعون مع نبي الله موسى عليه السلام.
الصفات النفسية للمستبد بين الماضي والحاضر:
1- الجحود والإنكار: من يتأمل في أصل كلمة الجحود والإنكار في واقع الإنسان قديماً أو حديثاً, وسياق ورودها في القرآن الكريم؛ سيجد أن الجاحد لرسالات الأنبياء والرسل على مر العصور لا ينكر هذه الرسالات لضعف فيها ولا لقلة حجج الرسل؛ وإنما الإنكار يكون من منطلق نفسي أخلاقي, فاستعلاؤه وإصراره وكبره وانتصاره لدين الآباء, والخرافات والتقاليد التي ألفها، وفي أحيان كثيرة خوفاً على المناصب التي يعتريها, تجعل على قلبه أقفالاً, وهذه الظاهرة المرضية لا تخص زماناً بعينه، ففي حاضرنا اليوم نرى جحوداً وإنكاراً من عدد من القادة خاصة بعد أحداث "الربيع العربي"، ففي الحالة المصرية مثلاً؛ أصر قائد الانقلاب على رفع باطله فوق حق الشرعية، وأنكر شرعية الرئيس الذي اعتلى كرسي الرئاسة في انتخابات حرة نزيهة، وأنكر خمسة استحقاقات انتخابية.
2- الإغراء والإغواء: الإغراء والإغواء هو استعمال مختلف الأساليب النفسية للتأثير على آراء ومشاعر وسلوكيات الآخر حتى يقتنع تمام الاقتناع بما يحمله له الغاوي, فتجد المُغوي يجيد تقمص الأدوار, فتتضارب فيه الأزياء والأقنعة بألوانها وأشكالها وأنغامها التي تنطلق من كلِّ لونٍ وشكلِ وقناع؛ ليسحر سامعه في النهاية بألوان كلامه وهذا ما صوره القرآن لما رفع الستار عن حوار فرعون مع السحرة في قوله تعالى: "وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ" (الأعراف:113).
وما زلنا مع المشهد المصري؛ ونمثل لذلك بالإغراء والإغواء الذي قدمه "السيسي" لحوارييه من علمانيين ولبراليين وإسلاميين وأقباط، فقد مناهم بالأماني، وزين لهم سماء مصر بما يشتهون من الألوان، ومنَّاهم بما تشتهيه أنفسهم وتشرئب إليه أعناقهم من مناصب ومغانم، فخدعوا واستجابوا لأمره وكانوا له من الصاغرين.
3- الثقة العمياء في النفس والقدرات: حين تتلبس الإنسان هذه الصفة؛ يستصغر كل من حوله ويستهين بقدراتهم، ويستعلي بنفسه وقدراته؛ فيغيب عنه أن الآخر قد يفاجئه بما لا قبل له به، كما فوجئ فرعون بقوة حجة نبي الله موسى عليه السلام ورد فعل السحرة الذي نزل عليه كالصاعقة؛ لما حصحص الحق وغمر شغاف قلوبهم فخروا سجداً في موقف لم يخطر على بال فرعون، فصور القرآن هذا المشهد العجيب قائلاً:
"وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (*) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(*) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ(*) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ" (الأعراف: 120).
وقد كانت هذه الثقة العمياء الزائدة في النفس هي التي أهلكت الطاغية الليبي "معمر القذافي", فقد استهان بقوة الثوار وقدرتهم على تحقيق النصر وتحرير ليبيا من ظلمه واستبداده.
4- العناد والإصرار على الباطل: فالطغاة إنما كانوا طغاة لخروجهم عن الحق وركوبهم سبيل الباطل وعنادهم وإصرارهم عليه, ولو أنهم سلموا للحق وأذعنوا له لانتفت عنهم صفة الاستبداد والانتصار للذات: "وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ" (الأعراف: 132). فإذا ما ولينا وجوهنا شطر فلسطين ألفينا هناك عدواً متجبراً يمثله العدو الصهيوني الغاصب, ذلكم المستبد الذي يصر على باطله, ويعاند ما يعرضه أصحاب الحق الحقيقيون من حجج تاريخية ودينية تثبت بطلان ما يدعيه من تضليلات وأكاذيب وهمية, كما تثبت حقهم في هذه الأرض دون منازع.
5- الفزع من زوال السلطان: وهي صفة لصيقة بكل مستبد، تمثل حالة نفسية دفينة في دواخل المستبد, ناجمة عن الرعب المتغلغل في أغوار نفسه من سقوط هامته من عليائها المزيف، وذلك ما صوره الحق سبحانه في قوله:
"قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَٰذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (*) لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ" (الأعراف: 124).
ولا أرى بياناً أوضح لذلك في عصرنا من الوعيد الذي كان يطلقه مجنون ليبيا؛ متوعداً ثوار ليبيا الأحرار بأنه سيقتلهم حيث ثقفهم، وسيقفو أثرهم "داراً داراً، زنقة زنقة"، وكذلك كان طاغية الشام وفرعون مصر.
6- الخذلان والتضحية بالأعوان: شعار كل مستبد: المصلحة الشخصية فوق كل اعتبار؛ لذا تجد كل أفعاله تنزع نحو الشخصانية على حساب المصلحة العامة, فهو على استعداد تام للتضحية بكل من سولت له نفسه الخروج عن قانون هذه المصلحة: "لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَىٰ رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ" (الشعراء: 50). ومن الأمثلة الصارخة على ذلك انقلاب قائد الانقلاب على كثير من أتباعه الذين ناصروه وآزروه في تصفية الديمقراطية الوليدة في أرض الكنانة، مثل أحمد ماهر، ورموز الدعوة السلفية.
7- الغطرسة والاستعلاء: نفسية الغطرسة هي الفخر والكبرياء الزائد عن الحد أو العنجهية المتطرفة, وهو ما قد تجد عليه المتغطرس من مغالاة في تقدير كفاءته وقدراته, فتجده يستعلي على الخلق وينوه بشخصه وسلطانه، ويستهين بغيره ويستهزئ به، وهذا ما صوره الحق سبحانه وتعالى في قوله:
"وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ" (القصص: 38). وممن تجلت فيه هذه الصفة بوضوح "عبقري" ليبيا؛ صاحب الكتاب الأخضر الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، و"ملك ملوك أفريقيا"، الهالك بأمر الله؛ "معمر القذافي"، ومن النماذج البينة كذلك طاغية الشام.
8- الحقد وإضمار الانتقام: وهي صفة نفسية تلقي إليك بحقيقة صاحبها من خلال أفعاله وحماقاته التي لا تنتهي، وانظر إلى الطاغية فرعون ماذا يقول: "سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ" (الأعراف: 127)، هذه الحالة النفسية المرضية عينها نراها ماثلة في مجنون ليبيا وطاغية سورية وسفاك مصر، كل هؤلاء القتلة المجرمين كانوا يقتلون ويحرقون دون تمييز..
9- المكر والخديعة: وهي حيلة المستبد حين تضعف قواه عن إزالة مكروه ألمَّ به, فيلجأ إلى الآخر ليرفع عنه ما أصابه حتى وإن كان هذا الآخر خصمه, فمصلحته الآن تقتضي الاعتراف بخصمه واللجوء إليه ظاهراً, لكن باطنه يضمر خلاف ما يحكيه ظاهره، وهذا ما بينه الحق سبحانه:
"وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيل فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَىٰ أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ" (الأعراف: 134). هذه الصفة الخبيثة عرف بها اليهود قديما ومازالوا يستندون إليها باستمرار في مواجهة أهل فلسطين، فمنذ انطلاق ما يسمى بـ"مسلسل المفاوضات" لم يلتزم يهود بني صهيون بأي اتفاق أبرموه، بالرغم من حرص السلطة الفلسطينية المطبعة على تطبيق الشق المتعلق بها في كل اتفاق.
مآلات المستبدين بين الماضي والحاضر:
1- الهزيمة وبطلان دعوته أمام استعلاء الحق: فأمام دعوة الحق المؤيدة بالرسالة، المتصلة بالقوة، القاهرة تتلاشى قوى الظلام ودعوة المستبد: "وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ(*) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(*) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ" (الأعراف: 119).
ولعل المثال الصارخ على هذا في عصرنا الحاضر هو بطلان وزيف حجج قائد الانقلاب المصري بعد صمود أصحاب الشرعية, فقد استطاعوا بثباتهم كشف حقيقة ما يدعيه لمن قدموا له الدعم يوم الانقلاب, فانصرف عنه كثير منهم, وسحبوا دعمهم لهذا الانقلاب الظالم, وكان منهم إعلاميون مثل خالد داود، الناطق الإعلامي باسم "جبهة الإنقاذ"، وسياسيون مثل حركة 6 أبريل - جبهة أحمد ماهر، وفنانين وغيرهم.
2- انصراف الأتباع بعد بطلان حجته: وليس بعد وضوح الرؤية وكشف الحق وإظهار الحجة والبيان إلا انصراف ذوي الفطرة السليمة إلى اتباع الحق والتصديق له والإيمان به, منبهرين مشدودين لما كان محجوباً عنهم من الحق:
"وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (*) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (*) رَبِّ مُوسَىٰ وَهَارُونَ (*) قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَٰذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (*) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِين (*) قَالُوا إِنَّا إِلَىٰ رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ (*) وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ" (الأعراف: 126).
إنه التهديد والوعيد, أسلوب كل طاغية متجبر، وهذا ما كان من بشار اللعين مع الكثير من أبناء الجيش الحر؛ الذين انصرفوا عنه وتراجعوا عن دعمه بعد انكشاف حقيقته وما يدعيه من أكاذيب، واستعلاء كلمة الحق التي يدعو إليها الثوار وينادون بها.
3- زوال السلطان: إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده الصالحين, فهذه سُنة الله في أرضه والعاقبة لمن اتقى, فمن السنن الكونية أن الطغاة إلى دمار مهما علوا وتجبروا في الأرض, وأن سلطانهم إلى زوال مهما طال زمانه، فها هو المتجبر التونسي "زين العابدين" قد علا وتجبر وظن أنه خالد في مقامه بعد23 سنة من الحكم، ولكن القدر يمهل ولا يهمل، وكذلك شأن مثيله "مبارك".
وذلك ما تنطق به الآية صريحة: "قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (*) قَالُوا أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ" (الأعراف: 129).
4- الهلاك المبين: شاءت إرادة الله وسُنته الكونية في التعامل مع المكذبين الضالين, الغافلين عن آيات الله وعظاته أن ينتقم وأن يهلك فرعون ومن معه ضربة واحدة بعد طول إمهال جزاء بما كذبوا وجحدوا, فكانت العاقبة: "فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ" (الأعراف: 136). وها قد انتقم رب العالمين شر انتقام من مجنون ليبيا "معمر القذافي" بعد 42 عاماً من التجبر والطغيان وقهر العباد، وكذلك اللعين الحقود "شارون"؛ الذي نكل بالمسلمين فجعله الله وجل آية للناس. مجلة المجتمع
الآراء