قبل الدخول في العالم الحدیث وعملیة الانتقال من التقلید إلی الحداثة، أن تعلیم العلوم والمعارف والآداب کان منحصرا بالدورات الدراسیة التي قد تتم في حوزات علمیة أو مدارس دینیة وهذه المراکز کانت تعرف بـ "الحجرة" في المناطق الکردیة بإیران والعراق وسوریا. الحجرة کثیرا ما تطلق علی غرفات ترابیة صغیرة تقع في القسم الداخلي من المساجد ویعیش فیها الطالب وفي نفس الوقت کان یتخذها مکانا للنوم والراحة حتی الاغتسال والاستحمام. وفي بعض الأحیان نری قریة صغیرة یوجد فیها مدرس قوي ونشیط قد اجتمع حوله أکثر من خمسین طالبا. ومن میزات هذه الحجرات أن التعليم لا يتم فیها بدافع الحصول علی الفرص الاجتماعیة أو المنافع المادیة أو الدرجات العلمیة. والحافز الرئیسي الذي کان یجلب الطلاب إلی هذه الحجرات هو الواقع العلمي والدعم العلمي من جانب وحریة الطالب من اختیار الأستاذ والشعور بالمسؤولیة في التدریس وعرض العلوم المختلفة من قِبل الأساتذة من جانب آخر.
وفي العدید من المناطق الکردیة تم إنشاء کثیر من دوائر العلوم الجلیلة التي قد تفوقت علی أقرانها من المراکز العلمیة الأخری في العالم نظرا للشمول والواقع العلمي وکان یتم فیها تدریس العلوم الإسلامیة المسماة بالعلوم العقلیة والنقلیة والعلوم الأدبیة بالإضافة إلی علوم أخری کالریاضیات والهندسة وعلم الجبر والفلکیات والأسطرلاب حتی علم النبات والطب التقلیدي ومن أبرز ممیزات هذه الحجرات ما یلي:
• الشمول العلمي ضمن البساطة
إن الحجرات کانت غرفات صغیرة تقع بجانب المساجد في غیاب أدنی مرافق ضروریة وقد نشأ فیها رجال کبار حیث یمکن اعتبارهم أساطين علمیة في العالم الإسلامي. وابن صلاح الشهرزوري کان من متخرجي هذه الحجرات وأن أثره الخالد في علم الحدیث یعتبر مصدرا علمیا بمختلف الجامعات. إن المناطق الطبیعیة الخلابة بکردستان قد تم فیها إنشاء مدارس ومساجد ذات جدران طینیة مفتوحة الأحضان لاستقبال الطلاب الدینیة في غاية البساطة قبل عقود من الزمن وأن هؤلاء حافظوا علی سطوع مصابیح العلم في تلک المناطق وکل طالب مدین لهؤلاء المدرسین.
یقول العلامة أحمد ترجاني زاده من أبرز متخرجي هذه الحجرات: "في المناطق الکردیة توجد المدارس العلمیة القدیمة في قمة الازدهار وهناک أسر علمیة قد مرت علیهم مئات من السنین مع مکتبات ثمينة جدا ونمط التدریس في هذه المدارس عمیق جدا والعلماء یحظون باحترام بالغ من قِبل الطلاب".
یقول الأستاذ عبد الرحمن شرفکندي في مقدمة المجلد الثاني لقانون ابن سینا حول شظف العیش وصعوبة الوضع في الحوزات العلمیة بکردستان:
"لا تعتقد أبدا أن مدارس کردستان کانت تتم إدارتها تحت إشراف الحکومة ومیزانیة محددة لا! بل إن إمام المسجد ومدرسه یعتمد في معاشه علی زکوات المحاصیل الزراعیة بالقریة وعلی الطالب أن یدق أبواب منازل القریة قائلا: "ناني فهقیان رهحمهتی خوداتان لی بی" خبز الطالب رحمکم الله. وخبز الدخن کان أرخص شيء وبالتالي یأتي دور خبز الشعیر ثم خبز القمح مع القلة. وقد کان یضیف أحد من المحسنین بهارات علی الخبز وإلا فکان خبز الدخن مع زبدة اللبن قریننا الدائم وأنیس المائدة".
مع ذلک ورغم کل هذه العوائق والصعوبات أن الشمول العلمي والمکانة الثقافیة لهذه المدارس کان في مستوی عال جدا حیث یقول العالم الشهیر والأستاذ الجامعي والعضو الثابت لآکادمیة اللغة والأدب الفارسي الدکتور مهدي محقق: إن منطقة کردستان کانت معهدا للعلوم ومصدرا للعلماء الکبار ویمکن القول بأن التقالید العلمیة التي کانت سائدة علی المدارس النظامیة في مرو ونیسابور وبغداد قد برزت أکثر شمولا في المناطق الکردیة واستطعنا أن نستفید من فقهاء عظام کالأستاذ شیخ الإسلام الکردستاني مدرس الفقه الشافعي بجامعة طهران وأدباء کبار کالأستاذ عبد الحمید بدیع الزمان الكردستاني مدرس الأدب العربي بجامعة طهران.
• جامعة دون رواتب إلا الثقة بالنفس واحترام الذات
إن التعليم في المدارس الدینیة في المناطق الکردیة کان مجانا ولم یحدث هناک من یأخذ أجرة تجاه تدریس العلوم الدینیة؛ بینما في مناطق أخری من البلاد کان کثیر من المدرسین یأخذون الأجرة من الطلاب وقد نقل الأستاذ الشهیر في الأدب الفارسي محمد رضا شفیعي کدکني في مذکراته: إن العلامة الأدیب النیسابوري وأستاذ آیة الله السیستاني والدکتور مهدي محقق والدکتور أحمد مهدوي الدامغاني کان یدرس في مدینة مشهد وکان یأخذ الأجرة من جمیع الطلاب والتلامیذ دون استثناء وأن أحب دروسه من حیث الثمن کان المطول ومن دروسه الصیفیة کانت مقامات الحریري وکانت أغلی ثمنا والسیوطي والمغني والحاشیة کانت أرخص الدروس ومعلقات السبع کانت ضمن الدروس الباهظة الثمن.
والطلاب الذین لم یتمکنوا من دفع الثمن علیهم أن یجلسوا خلف "المَدرَس" في الرواق ویقوموا باستماع الدروس وإذا دخلتَ الغرفة تجد هناک ورقة مکتوبة علیها بخط جمیل: "الکاسب حبیب الله" وکأنه بهذه العبارة یتعذر من الطلاب الذین کان یأخذ منهم الأجرة. وفي الأیام الأولی کان یکرر هذه العبارة: "من لم یسجل اسمه فلیقم بتسجیله وإلا فلا یسمح له الحضور في الصف" والعبارة کانت تؤذیني جدا و قد ذهبت باکیا إلی والديّ وطلبت منهما النقود للتسجیل.
ولکن الثقة بالذات والحریة التي کان یتمتع بها متخرجو المدارس الدینیة بکردستان کانت تحول دون أخذهم أي أجرة من الطلاب وفي هذا الصدد یلزمني أن أذکر نموذجا مما سمعت من العالم الشهیر والدارس الکبیر الدکتور محمد فاضلي الأستاذ البارز بجامعة فردوسي؛ حیث یقص الدکتور عن أستاذه العلامة ملا هادي أفخم زاده ضمن فضائله العلمیة وسجایاه الأخلاقیة: کان الأستاذ أفخم زاده یتمتع بمکانة عالیة من المناعة والکرامة حیث لا یهتم بأي منصب ولا یفکر في السمعة والأجرة ولا تجلبه الثروة ولا السلطة بینما أرسل لي صورة وکتب علیها:
از سختی زندگی نباشد عارم وز ثروت بی دین به خدا پردازم
از لطف خدا شکر همچون گنجی از گوهر دریای رسالت دارم
لست أخجل من صعوبة العیش
واستجیر بالله من ثروة التي لیس معها دین
والشکر لله بأن لدي کنز من بحر النبوة.
وحین عرض علیه السناتور محمد عباسي بأنه تمکن من توفیر التحضیرات اللازمة لتدریس الأستاذ في جامعة طهران رد علیه في رسالة: أنا الیوم أرجح المرور بزقازق سرا (قریة التي کان یقطن فیها) الترابیة والحضور في حلقات الطلاب وإرشاد الناس البسطاء إلی الحق علی المشي في شوارع طهران الجمیلة والمرور بالحدائق الخضراء في بیئة جامعة طهران والجلوس علی مقاعد التدریس فیها.
عدد من العباقرة العلمیة المتخرجة من هذه الحجرات:
الأستاذ بدیع الزمان الکردستاني أستاذ جامعة طهران.
الأستاذ العلامة أحمد ترجاني زاده.
العلامة ملا محمد قزلجي.
العلامة عبد الرحمن شرفکندي (هزار).
العلامة ملا هادي أفخم زاده.
الآراء