ركضاً إلى ساحة الرضوان .. تبتلاً في حضرة الرحمن، تعالوا نأوي مع الصوم، إلى كهف من الطهر، ينشر لنا ربنا فيه من رحمته ويهيئ لنا من أمرنا مرفقاً.
هيا إلى خلوة القرآن
كتب الصيام علينا في رمضان كما كتب على الذين من قبلنا، لا لأن بالله حاجة أن نرى القوت أمامنا ونحن في حاجة إليه، فنعف إيماناً وطاعة، ونرنو إلى الماء نطفئ به حرقة الظمأ، فلا نقربه رضاً واحتساباً. أياماً معدودات في عالم الحساب، ولكن لا عداد لها في عالم الأجر والثواب نكمل عدته، ونكبر الله على ما هدانا إليه، ونسكن فيه إلى دنيا الرشاد، نسأل الله فيه .. فهو فيه أقرب من قريب، وندعو لياليه .. فهو فيها باسط الكف ومستجيب، نرقب مطلع الفجر الأبيض، شرقاً من الليل الأسود، لنمسك ما يشغل بال الناس من متع الحياة، إنها حدود الله.. لن نتعداها نزولاً عند أمر رب العالمين.
في بيداء الحياة يشتد الحنين إلى المنهل العذب، والورد الصاقي النمير، تهفو إليه الروح المشتاقة إلى معاودته عاماً بعد عام .. على طول فترة العمر، وتشد الحياة بأوضاعها القاسية، خاصة في فترة الأزمات، تشد الناس إليها، وتحجب الرؤية الواضحة، أطباق الغبار وتراكمات الضباب، ويتلهف الساري طوال العام في دروب السنين، إلى واحة الطهر والصفاء، حيث يلقي عصا التيار عند مشارف شهر الخلوة والصوم والقرآن.
مرحباً.. بشهر الله
إن متطلبات ماديات الجسد في رمضان، هي نفسها في غير رمضان، وغمار الخلق بفجرهم وتجبّرهم في رمضان، همو همو في غير رمضان، فما بال قلب الصائم المخلص صومه من كل الشوائب والكدورات، يرف بين جنبيه فرحاً بالوقوف على باب من جعل الصوم له، وهو الذي يجزي به، ما باله يجد حاله في رمضان، غير حاله في شهور العام؟ ألأنه تخفف من الماديات.. إفطار فغداء فعشاء، وما بينها من مرفهات؟؟
لا أظن.. فمن لم يدَع قول الزور، فليس بالله حاجة أن يدَع طعامه وشرابه.. الأمر أسمى من ذلك وأعلى. حقاً، إن الصوم فريضة، والفريضة تكليف، والتكليف عبء لا يهون في الاحتمال، وحسب الصائم رسوخ قدم في دنيا التقى، أن يقاوم نفسه، إذا ما ألحّ عليه عامل الجوع والظمأ.. امتثالاً للأمر، وهل بعد الامتثال لأمر الله من مقام للمسلم الطاهر الأمين؟ وإذا لم يكن الصبر على مالا تألفه النفس .. فما الفرق بين الطائع والعاصي؟! الأول وقف عند الأمر فنفذه والثاني شق عليه الأمر، فاتبع نفسه هواها، فراح مع الشاردين.
فرحتان للصائم
لماذا يقرر الأمين الموحى إليه من العليم الخبير، أن الصائم يفرح عند إفطاره، فمن اليقين إذن، مع قول رسول الله ، أن نؤمن بأن لساعة الإفطار فرحة، ولكي تكون النظرة أوفى شمولاً أقرر أن هذه الفرحة إما أن تكون مادية، فقد أمسى في متناول الصائم شرعاً أن يباشر مأكلاً منع منه حيناً، وشرباً حيل بينه وبينه فترة، وهذه الفرحة المادية لن تكون إلا لما أحس به الصائم من حرمان طوال النهار، ثم انتهى الحرمان بحلول ساعة الإفطار.. وإما أن تكون الفرحة روحيّة، ينعم فيها الصائم رضاء أن أطاع الله، لقد امتنع عن طعامه وشرابه تمسكاً بالطاعة، وبهذا يكون المقطوع به يقيناً، أن حال المسلم الصائم في رمضان، هو غير حاله في كل شهور العام.
فلينتبه الصائم ولا يهنئ نفسه بأنه لم يشعر بشيء من جوع أو عطش، وإلا فإنه خارج على مألوف البشر، من ناحية التكوين العضوي الذي يتطلب الطعام والشراب. إن المسلم الذي يصوم دون شعور بالمعركة المحتدمة بين لزوم المأكل والمشرب كضرورة من ضروريات الحياة وألا مهرب منها، وبين الصبر على هذا الاحتدام، ابتغاء مرضاة الله، يجب أن يبدل نظرته إلى الفريضة وأن يقف معها موقف المأمور من الأمر، وأن يحس بأنه ما منع إلا لما في هذا المنع من أثر، وهنا يتجلى مجال الطاعة، لمن التزمها إيماناً واحتساباً، وحبذا لو رجعت إلى الآية التي فرض بها الصيام
"يأيها الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ..".
إن كل كلمة جاءت في كتاب الله، جاءت لحكمة معينة، لم تأت اعتباطاً ولا استرسالاً في حديث، فلماذا يقول الله تبارك وتعالى في هذه الآية "كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ" هل جاءت تاريخاً؟ أو إخباراً بحدث؟
الصوم جلاء لصدأ النفوس
والصوم فوق هذا كله، هو الجلاء الكامل لصدأ النفوس، كي تهيأ للمثول في حضرة الديان سبحانه مظهراً وظهوراً.
أن الله اصطفى الإنسان من بين سائر المخلوقات ليكون موضع التكليف، فأنت خليفة الله في أرضه ليؤهلك بهذه الخلافة إلى توريثك جنة الخلد، ويسابق علمه جل شأنه، بما جبلت عليه النفس البشرية من الضعف والرغبة في العاجل، ولو كان دون الآجل بمراحل.. أراد أن يمر به في مرحلة اختبار، يبدو فيه الحال سافراً.. أيشكر ويصبر؟ أم يجزع ويتغير؟ ثم ماذا بعد هذا؟ ترى أي شعور عامر بالإسعاد.. ذلك الذي يسري بصدر الصائم وهو يبدأ يقظته محساً بأنه مطيع لصاحب الفضل عليه، قريب منه، حبيب لديه مرضي عنه، مهيّأ للخير في دنياه، موصول المثوبة الواسعة في أخراه؟ أي إحساس يجده الصائم، في جنبات قلبه، وقد ارتفع على المادة في كل أوصافها وآثارها، وسما إلى سماء الملائكة المقربين ..
إفطاره دعاء، غذاؤه تسبيح، وعشاؤه قيام وترتيل، أين هو من الخلق في المستوى الإنساني، إذا صام كما يجب أن يصوم المسلم.. سمح إذا أخذ، جواد إذا أعطى، حليم إذا غضب، بصير إذا استشير، ذكور إذا نسي، وديع إذا تعامل، طيب الأثر إذا خالط الناس وصبر على أذاهم، جلد إذا حمل الأمانة، وفيّ إذا عاهد، أمين إذا استودع، مخلص إذا عمل، دءوب في أداء الواجب، طلق المحيا بسام الثنايا، لا تنعقد جبهته، ولا تتجهّم طلعته، يظنه الرائي للحيوية التي يمتاز بها، وكأنه من غير الصائمين، فهو النقي الخفي ما بحاله من إعلان.
أجمل ما في الصيام
هذا هو أجمل ما في الصيام .. النزول عند الأمر، ولو شق احتماله، وهل يكون الأجر إلا على قدر المشقة؟ وهل الذي يطوي الأرض سيراً إلى حبيبه ومبتغاه، على الصخر فوق الشوك وطول السرى، كمن يسير إليه على الممهد من الطرقات، بالميسّر من الوسائل؟ إن أمام الصائم صدق موعود الله .. إن صبر على الجوع هنا، فهناك فاكهة مما يتخيرون، ولحم طير مما يشتهون.
إذا صمد للظمأ هنا، فهناك ولدان مخلدون، يطوفون بأكواب وأباريق وكأس من مَعين، ولا نفاد لخيرات الله، وكيف ينفد عطاء من بيده خزائن السموات والأرض، وأكثر وأكثر وأكثر، أين الصائم من أواني الفضة والأكواب القوارير؟
بشراك أيها الصائم، المخلص لربه.. بشراك.. سعيك مرضي عنه ووجهك ناضر بديع، في العلا المخضل من الجنان، حيث لا لغو ولا تأثيم، ولكن سلام ونعيم.. في العيون الجاريات، في الأكواب الموضوعات.. على النمارق المصفوفات، والزرابي المبثوثات.. حيث لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
اللهم إنك تعلم إنا لك لصائمون، لا نشعر بالخوف إلا منك ولا بالذل إلا لك، ولا بالفقر إلا إليك، فاجعل خوفنا منك، أمناً لنا من كل من عداك، واجعل ذلنا لك، ذروة العز لنا في هذا الوجود، واجعل حاجتنا إليك هي الزاد الوافر والغنى الكامل، عن كل ما سواك، وأصلح يومنا وأنر ليلنا، وتقبل قيامنا واحفظ صيامنا وأنر طريقنا، إنك أنت مجيب الدعاء.
الآراء