مسعود صبري يتمثل منهج الإسلام في العناية بالقرآن من جانبين: الأول – جانب الحفظ والتلاوة، والجانب الثاني – جانب الفهم والعمل واتخاذه منهجا في الحياة عبر فهم يسبر أغواره، ويستند إليه في التنمية الحضارية للأمة. وجانب الحفظ والتلاوة هو السياج الحامي والمقدم أولا على العمل والفهم، وهو من باب الوسيلة لحفظ المقصد والغاية، فبدون حفظ لن يكون هناك عمل، لأن الحفظ يمثل جانب المعرفة والعلم، ولهذا كانت عناية الأمة بالقرآن في جانب الحفظ فائقة، فوجدت ملايين الشباب والفتيات يحفظون القرآن الكريم، يظهر هذا في الكتاتيب ومدارس القرآن في ربوع العالمين: العربي والإسلامي، وتقام المسابقات، وتتبارى الدول في بيان عنايتها بالقرآن الكريم من خلال رعاية الدولة ومؤسساتها في تنظيم حفظ القرآن الكريم، وترصد مكافآت مالية كبيرة لأجل هذا الغرض السامي. وفي صحيح البخاري (6/ 192)
عن عثمان رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه»، بل تفاخر الحجاج بن يوسف الثقفي وكان يعلم الصبيان القرآن، ويرى أنه وصل للملك بما كان معه من القرآن. على أن تعلم القرآن ينبغي أن يكون في الصغر، كما في صحيح البخاري (6/ 193) قال ابن عباس: «توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابن عشر سنين، وقد قرأت المحكم».
وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون جل الاهتمام بالقرآن الحفظ والتلاوة دون الفهم والعمل به، وأن يكون القرآن موجها للمسلم في كل تصرفات حياته، بل نبأ أنه سيأتي على الناس زمان من شرار الخلق، ولكنهم يحفظون القرآن ويتكلمون به، لكنهم لم يدركوا مقاصده، ولم يعرفوا هديه، ولم يتبعوه سلوكا ومنهجا في الحياة، بل يراءون الناس به ويأكلون بالقرآن، ففي صحيح البخاري (6/ 197): قال علي رضي الله عنه: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «يأتي في آخر الزمان قوم حدثاء الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن قتلهم أجر لمن قتلهم يوم القيامة».
وإننا اليوم نرى بأم أعيينا أناسا من بني جلدتنا يتكلمون بالقرآن وهم أبعد ما يكونون عن هدي الإسلام وتعاليمه، وتكمن المشكلة في أنهم حين علموا القرآن تعلموا قراءته وتلاوته، لكنهم لم يتعلموا العمل بما جاء فيه.
أصناف الناس مع القرآن
ويدعو النبي صلى الله عليه وسلم بالانتفاع بالقرآن في الحياة، فيجعل الناس بالنسبة للقرآن أربعة أصناف، ففي صحيح البخاري (6/ 198)
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” المؤمن الذي يقرأ القرآن ويعمل به: كالأترجة، طعمها طيب وريحها طيب، والمؤمن الذي لا يقرأ القرآن، ويعمل به: كالتمرة طعمها طيب ولا ريح لها، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن: كالريحانة ريحها طيب وطعمها مر، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن: كالحنظلة، طعمها مر – أو خبيث – وريحها مر “. وهذا الحديث غاية في توصيف الناس فيما يتعلق بالقرآن الكريم، وبه يزول الإشكال عند الناس فيما يجدونه في بعض أهل القرآن.
أفضل الأوقات
ولأجل الفهم دعا النبي صلى الله عليه وسلم أن تكون قراءة القرآن وقت النشاط واجتماع القلب، فإذا لم تكن النفس مستعدة للتلاوة بسبب الملل فترك القراءة أولى حتى يجتمع القلب، كما ورد في صحيح البخاري (6/ 198): «اقرءوا القرآن ما ائتلفت قلوبكم، فإذا اختلفتم فقوموا عنه».
إن هذا الائتلاف الذي جعل الملائكة تتنزل على بعض الصحابة عند قراءته، كما في صحيح البخاري (6/ 190) عن أسيد بن حضير، قال: بينما هو يقرأ من الليل سورة البقرة، وفرسه مربوطة عنده، إذ جالت الفرس فسكت فسكتت، فقرأ فجالت الفرس، فسكت وسكتت الفرس، ثم قرأ فجالت الفرس فانصرف، وكان ابنه يحيى قريبا منها، فأشفق أن تصيبه فلما اجتره رفع رأسه إلى السماء، حتى ما يراها، فلما أصبح حدث النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اقرأ يا ابن حضير، اقرأ يا ابن حضير، قال: فأشفقت يا رسول الله أن تطأ يحيى، وكان منها قريبا، فرفعت رأسي فانصرفت إليه، فرفعت رأسي إلى السماء، فإذا مثل الظلة فيها أمثال المصابيح، فخرجت حتى لا أراها، قال: «وتدري ما ذاك؟»، قال: لا، قال: «تلك الملائكة دنت لصوتك، ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها، لا تتوارى منهم». فهل يمكن للملائكة أن تتنزل اليوم على أحدنا حين يقرأ القرآن كما حصل مع أسيد بن الحضير – رضي الله عنه- وغيره من الصحابة؟
التهيئة قبل العمل
إن مما ينبغي العناية به في القرآن التهيئة النفسية لقبول أحكامه، قبل بيان العمل به، حتى تكون النفس قابلة لذلك، فقد ورد في صحيح البخاري (6/ 185) عن يوسف بن ماهك، قال: إني عند عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، إذ جاءها عراقي، فقال: أي الكفن خير؟ قالت: ويحك، وما يضرك؟ ” قال: يا أم المؤمنين، أريني مصحفك؟ قالت: لم؟ قال: لعلي أؤلف القرآن عليه، فإنه يقرأ غير مؤلف، قالت: وما يضرك أيه قرأت قبل؟ ” إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبدا، ولو نزل: لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبدا، لقد نزل بمكة على محمد صلى الله عليه وسلم وإني لجارية ألعب: {بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر} [القمر: 46]
وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده “، قال: فأخرجت له المصحف، فأملت عليه آي السور. إن عصمة القرآن للأمة مما يحاك لها لن يكون إلا من خلال التدبر والانتقال بالقرآن من مرحلة العناية إلى مرحلة الهداية التي هي مقصوده الأعظم، وأن نعنى بتفعيل القرآن في حياتنا بقدر عنايتنا بحفظه عن ظهر قلب، ولئن كان حفظ القرآن مفخرة مستحبة، فالعمل بالقرآن واجب مفروض على كل مسلم.
الآراء