لا الدولة الدينية قامت ولا ولاية الفقيه لاحت ولا اللون الواحد انفرد بكتابة الدستور الجديد. وهي الحقائق التي تبدت حين خرج المشروع إلى النور، وأتيح لنا أن نقرأه بأعيننا، وليس بأعين الذين استبقوا ووصفوه بأنه دستور العار وحذرونا من الكارثة التى يحملها إلينا، وقرروا أنه يعصف بحقوق المصريين وحرياتهم.
حتى اعتبر البعض أنه صدر فى يوم بائس وحزين وصفه أحدهم بأنه أسود من قرن الخروب؟ وقال آخر إنه جزء من مؤامرة على الثورة. وقرأت فى أهرام الثلاثاء 4/12 مقالة لأستاذ محترم للعلوم السياسية قوله إنه: «يحول طبيعة المجتمع المصري من مجتمع مدني يحكمه القانون إلى مجتمع يحكمه الفقهاء والفتاوى، وينشئ نظاما استبداديا دائما يكرس تزوير الانتخابات ويميز بين المواطنين».
ما سبق يعد من قبيل الكلام المهذب نسبيا الذى صدر فى سياق التعليق على المشروع. وأقول إنه مهذب رغم حدَّته لأن آخرين كتبوا كلاما هابطا يعبر عن مدى التدهور الذى وصلنا إليه فى أجواء الاشتباك الراهنة، ظنا منهم بأن رص الكلمات المسيئة والأوصاف الجارحة يقوى وجهة النظر ويرجح الكفة فى خضم التراشق والاشتباك.
لا يحتاج المرء لقراءة الدستور لكي يطلق كلام المتطرفين والغلاة، ولذلك فإن «تفويته» والصبر عليه أم لا مفر منه إذا ما أردنا أن نأخذ الأمر على محمل الجد.
مما تابعناه نستطيع أن نميز بين أربعة مستويات للنقد والهجاء. فهناك الذين لم يقرأوا المشروع أصلا وهاجموه وهم مغمضو الأعين. وهناك الذين قرأوه بعين أيديولوجية متحاملة، كقول من قال إنه يغير من طبيعة المجتمع المصرى ليحكمه الفقهاء، وإنه ينشئ نظاما استبداديا يكرس تزوير الانتخابات إلى غير ذلك من الآراء التى تفتقد الدليل وتبعث على الرثاء والضحك. وهناك فريق آخر من الناقدين الذين سجلوا على المشروع ملاحظات موضوعية. بعضها تحدث عن نواقص، والبعض الآخر أثار علامات استفهام. أما المستوى الرابع فيضم أولئك الذين قرأوا الدستور جيدا وأخذوا عليه أمورا ليس مكانها الدستور، وإنما يتكفل بها القانون أو حسن الأداء فى التنفيذ. فحين تقرر المادة 58 من المشروع مثلا أن لكل مواطن الحق فى التعليم المجانى عالى الجودة، فإن من التعسف أن ينتقده أحدهم لأنه لم يتعرض لتدهور مستوى التعليم.
إذا صح هذا التصنيف فإنه يسوغ لى تسجيل الملاحظات التالية:
ـ إن أحدا من الناقدين العقلاء لم يتطرق إلى مسألة الدولة الدينية ولم يشر إلى مسألة اللون الواحد. لأن القراءة النزيهة للمشروع لا تكاد تجد شيئا يؤيد مثل هذه الادعاءات، التى ترددت فى وسائل الإعلام للتخويف أثناء جولات التراشق والتجاذب التى استمرت خلال الأسابيع الماضية.
ـ إن مشروع الدستور لا بد أن تكون له نواقص، سواء لأنه عمل بشري يحتمل النقصان دائما، أو بسبب اختلاف الرؤى، أو بسبب حرص الجمعية التأسيسية على إنجاز عملها قبل الأول من ديسمبر، تحسبا لاحتمال صدور حكم بحلها من جانب المحكمة الدستورية.
ـ إنه فى ظل الانقسام والاستقطاب الذى يتعمق يوما بعد يوم فى مصر فإن فكرة التوافق على المشروع باتت مستحيلة فى الوقت الراهن. من ثم فإن الإصرار على إحداث ذلك التوافق بمعنى قبول كل القوى الممثلة فى الجمعية التأسيسية بكل نصوصه قد يعنى تأجيل إصداره لعدة سنوات، تصاب خلالها الحياة السياسية بالشلل. لذلك لم يكن هناك مفر من إصداره من خلال تحقيق أكبر قدر من التوافق فى ظل موازين القوى الحالية.
ـ إن النصوص الواردة ليست قرآنا منزلا، لكنها قابلة للتطوير والتعديل سواء لعلاج قصور أو نواقص فى المشروع أو للتعامل مع أوضاع استجدت، وفى المشروع (المادة 217) نص حدد كيفية إحداث ذلك التعديل. وللعلم فإن الدستور الفرنسى تم تعديله 18 مرة منذ صدوره فى عام 1940.
ـ إن بعض المثقفين الوطنيين أثاروا مجموعة من الأسئلة والتحفظات المتعلقة بالمشروع بحاجة إلى إجابات وإيضاح. منها مثلا ما تعلق بحقوق المرأة ودور الثقافة واستقلال القضاء والنظام الاقتصادى وغياب النص على تمثيل العمال والفلاحين أو على منع التهجير القسرى للمواطنين، كذلك عدم النص على حظر الحبس فى جرائم النشر.. الخ.
هذه العناوين وغيرها ينبغى أن توضح للناس، وتلك مهمة يجب أن ينهض بها ممثلو الجمعية التأسيسية الذين عملوا فى «المطبخ» طوال ستة أشهر. وحتى إذا كانت القنوات الخاصة مشغولة بحملة الهجوم على الدستور والإعلان الدستورى، فثمة منابر أخرى يتعين أن تستثمر لهذا الهدف، سواء من خلال قنوات تليفزيون الدولة أو من خلال الندوات واللقاءات التى تنظم فى الأماكن العامة بمختلف أنحاء مصر.
إن الشعب يريد أن يفهم، وإذا سكتنا على البلبلة الراهنة، فالبديل أن نسلمه للمحرضين والمهيجين، ونستهلك حماسه وطاقاته فى الميادين والعراك الأهلي العبثي.
الآراء