عن علي  قال: قال رسول الله : ((أتاني جبريل فقال: يا محمد عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، واعلم أن شرف المؤمن قيام الليل، وعزه استغناؤه عن الناس)).

هذه كلمات جامعة من جوامع كلم رسول الله  التي أوتيها.

قال الغزالي: جمعت هذه الكلمات حكم الأولين والآخرين، وهي كافية للمتأمل فيها طول العمر، إذ لو وقف على معانيها، وغلبت على قلبه غلبة يقين استغرقته، وحالت بينه وبين النظر إلى الدنيا بالكلية والتلذذ بشهواتها. وقد تضمنت هذه الكلمات التنبيه على قصر الأمل، والتذكير بالموت واغتنام الأوقات، والتحذير من الاغترار بالاجتماع، والحث على التهجد، وبيان جلالة علم جبريل عليه السلام، وغير ذلك.

وإنما خاطب جبريل النبي  باسمه المجرد دون: يا أيها الرسول، أو: يا أيها النبي، لأنه المناسب لمقام الوعظ والتذكير.

وقوله: ((عش ما شئت فإنك ميّت)) إنما بدأ بذكر الموت لأنه أفظع ما يلقاه الإنسان وأبشعه، فهو أشد من ضرب بالسيوف، ونشر بالمناشير، وقرض بالمقاريض، وهو بمنزلة حسكة كانت في صوف، فهل تخرج الحسكة من الصوف إلا ومعها صوف؟!

روي أنه لما حضرت عمرو بن العاص الوفاة قال له ابنه: يا أبتاه! إنك كنت تقول: يا ليتني كنت ألقى رجلا عاقلا لبيبا عند نزول الموت حتى يصف لي ما يجد، وأنت ذلك الرجل، فصف لي ما تجد. فقال: يا بني، والله كأن جنبي في تخت، وكأني أتنفس من ثقب إبرة، وكأن غصن شوك يجذب من قدمي إلى هامتي، ولقد وجد رسول الله  وهو خليل الله من شدة الموت شيئا كثيرا، حتى أنه كانت بين يديه ركوة أو علبة فيها ماء، فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح بهما وجهه ويقول: ((لا إله إلا الله، إن للموت سكرات)).

ولذا قالت عائشة رضي الله عنها:  لا أكره شدة الموت لأحد بعد النبي ، فيا أيها الناس: قد آن للنائم أن يستيقظ، وحان للغافل، أن ينتبه، قبل هجوم الموت بمرارة كأسه، وقبل سكون حركاته، وخمود أنفاسه، ورحلته إلى قبره، ومقامه بين أرماسه.

فقد أجمعت الأمة على أن الموت ليس له سن معلوم، ولا زمن معلوم، ولا مرض معلوم. فكونوا على أهبة لذلك، واستعدوا للرحيل قبل يوم الرحيل، واستجيبوا لربكم حيث قال: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون  ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون  لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون  [الحشر:18-20].

 يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون  وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين  ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها والله خبير بما تعملون  [المنافقون:9-11].

وإذا كان الموت قادما لا محالة تعيّن على العاقل أن يكون قصير الأمل، مغتنما للأوقات، ذا همة عالية في التزوّد من الخيرات، وبهذا كان السلف يتواصون: قيل لمحمد بن واسع: كيف أصبحت؟ قال: ما ظنك برجل يرتحل كل يوم مرحلة إلى الآخرة. وقال الحسن: إنما أنت أيام مجموعة كلما مضى يوم مضى بعضك، وقال: ابن آدم! إنما أنت بين راحلتين مطيتين يوضعانك، يوضعك الليل إلى النهار، والنهار إلى الليل، حتى يسلمانك إلى الآخرة، فمن أعظم منك يا ابن آدم خطرا؟

وقال داود الطائي: إنما الليل والنهار مراحل ينزلها الناس مرحلة مرحلة، حتى ينتهي ذلك بهم إلى آخر سفرهم، فإن استطعت أن تقدم في كل مرحلة زادا لما بين يديها فافعل، فإن انقطاع السفر عما قريب، والأمر أعجل من ذلك فتزود لسفرك واقض ما أنت قاض من أمرك، فكأنك بالأمر قد بغتك، وكتب بعض السلف إلى أخ له: يا أخي! يخيل لك أنك مقيم، بل أنت دائب السفر، تساق مع ذلك سوقا حثيثا، الموت متوجّه إليك، والدنيا تطوى:

تزود من التقوى فإنك لا تدري                  إذا جن ليل هل تعيش إلى الفجر

فكم من فتى أمسى وأصبح ضاحكا                 وقد نسجت أكفانه وهو لا يدري

وكم من صغار يرتجي طول عمرهم           وقد أدخلت أجسادهم ظلمة القبر

وكم من عروس زينوها لزوجها                 وقد قبضت أرواحهم ليلة القدر

وكم من صحيح مات من غير علة                وكم من عليل عاش حينا من الدهر

قال رسول الله : ((بادروا بالأعمال، فتنا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا، ويمسي كافرا ويصبح مؤمنا، يبيع دينه بعرض من الدنيا)).

وقال : ((اغتنم خمسا قبل خمس: حياتك قبل موتك، وشبابك قبل هرمك، وصحتك قبل مرضك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك)).

فيا عبد الله: إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وأكثر من ذكر الموت، فإن من أكثر من ذكر الموت أكرم بثلاثة: تعجيل التوبة، والقناعة، والاجتهاد في الطاعة، ومن نسي الموت عوقب بثلاثة: تسويف التوبة، وعدم القناعة، والتكاسل عن الطاعة.

وتفكر يا مغرور في الموت وشدّته، وصعوبة كأسه ومرارته، فيا للموت من وعد ما أصدقه، ومن حاكم ما أعدله! كفى بالموت مفزّعا للقلوب، ومبليّا للعيون، ومفرّقا للجماعات، وهاذما للذات، وقاطعا للأمنيات. فهل تفكرت يا ابن آدم في يوم مصرعك، وانتقالك من موضعك، إذا نقلت من سعة إلى ضيق، وخانك الصاحب والرفيق، وهجرت الأخ والصديق، وأخذت من فراشك وغطائك إلى غرر، وغطوك من بعد لين لحافها بتراب مدر. فيا جامع المال، ويا مجتهدا في البنيان ليس لك من مالك والله إلا الأكفان، بل هي للخراب والذهاب، وجسمك للتراب والمثاب. فأين ما جمعت من المال هل أنقذك من الأهوال؟ وكأني بك تقول وقد قرأت كتابك وأيقنت بالبوار:  يا ليتني لم أوت كتابيه  ولم أدر ما حسابية  يا ليتها كانت القاضية  ما أغني عني ماليه  هلك عني سلطانية [الحاقة:25-29].

فيا نائما أفق، ويا غافلا انتبه، وبادر بالأعمال الصالحة قبل أن لا تقدر عليها ويحال بينك وبينها إما بمرض أو موت. قال أبو حازم: إن بضاعة الآخرة كاسدة، يوشك أن تنفق فلا يوصل منها إلى قليل أو كثير. ومتى حيل بين الإنسان والعمل لم يبق إلا الحسرة والأسف عليه، ويتمنى الرجوع إلى حال يتمكن فيها من العمل فلا تنفعه الأمنية، قال تعالى: وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون  واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون  أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرّطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين  أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين  أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين  بلى قد جاءتك آياتي فكذّبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين [الزمر:54-59].

وقوله: ((وأحبب من شئت فإنك مفارقه)) أحبب أخاك فإنك مفارقه، أحبب أمك فإنك مفارقها، أحبب أباك فإنك مفارقه، أحبب زوجتك فإنك مفارقها، أحبب ولدك فإنك مفارقه، أحبب مالك فإنك مفارقه، أحبب دارك فإنك مفارقها، أحبب عائلتك فإنك مفارقها، أحبب من شئت، وأحبب ما شئت فإنك مفارقه بموت أو غيره، فما من أحد في الدنيا إلا وهو ضيف، وما بيده عارية فالضيف مرتحل، والعارية مردودة.

قال الغزالي: القصد بهذا تأديب النفس عن البطر الأشر، والفرح بنعيم الدنيا، فإنه إذا علم أن من أحب شيئا يلزم فراقه، ويشقى لا محالة بفراقه، شغل قلبه بحب من لا يفارقه، وهو ذكر الله والعمل الصالح، فإن ذلك يصحبه  في القبر فلا يفارقه، كما قال النبي : ((يتبع الميت ثلاثة: أهله وماله وعمله، فيرجع اثنان ويبقى واحد، يرجع أهله وماله ويبقى عمله)).

وفي حديث البراء بن عازب  أن النبي  أخبر أنه بعد سؤال المؤمن في قبره: ((يأتيه رجل حسن الوجه، حسن الثياب، طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرّك، أبشر برضوان من الله وجنات فيها نعيم مقيم، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له: وأنت فبشرك الله بخير، من أنت؟ فوجهك الوجه يجئ بالخير، فيقول: أنا عملك الصالح، فوالله ما علمتك إلا كنت سريعا في طاعة الله بطيئا في معصية الله، فجزاك الله خيرا)).

وأما الكافر فإنه بعد سؤاله: ((يأتيه رجل قبيح الوجه، قبيح الثياب، منتن الريح، فيقول: أبشر بالذي يسوؤك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: وأنت فبشرك الله بالشر، من أنت؟ فوجهك الوجه يجئ بالشر؟ فيقول: أنا عملك الخبيث، فوالله ما علمتك إلا كنت بطيئا عن طاعة الله، سريعا إلى معصية الله، فجزاك الله شرا)).

وقوله : ((واعمل ما شئت فإنك مجزي به))، أي يوم القيامة. كما قال تعالى:  كل نفس ذائقة الموت وإنما توفّون أجوركم يوم القيامة  [آل عمران:185].

 من يعمل مثقال ذرة خيرا يره  ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره  [الزلزلة:7-8].

وقد كثر ذكر جزاء الأعمال في القرآن الكريم، قال الله تعالى:  ولله ما في السماوات وما في الأرض ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى [النجم:31].

وقال تعالى:  للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون  والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة مالهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون  [يونس:26-27].

وقال تعالى عن أهل الجنة:  ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون [الأعراف:43].

وقال في وصف نعيمها:  وفاكهة مما يتخيرون  ولحم طير مما يشتهون  وحور عين  كأمثال اللؤلؤ المكنون  جزاء بما كانوا يعملون  [الواقعة:20-24].

وقال عن أهل النار:  يوم يدعون إلى نار جهنم دعّا  هذه النار التي كنتم بها تكذبون  أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون  اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم إنما تجزون ما كنتم تعملون  [الطور:13-16].

ولما ذكر الموت وجزاء الأعمال أرشد إلى أشرف الأعمال فقال: ((واعلم أن شرف المؤمن قيام الليل)) والشرف هو الرفعة، يقال: لفلان شرف: أي منزلة عالية، فالنبي  يرشد أمته إلى أن ما يرفع منزلة المؤمن هو قيام الليل، فلأهل القيام منزلة لا تدانيها منزلة، قال تعالى:  إن المتقين في جنات وعيون  آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين  كانوا قليلا من الليل ما يهجعون  وبالأسحار هم يستغفرون  [الذاريات:15-18].

وقال النبي : ((إن في الجنة غرفا يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، أعدها الله تعالى لمن ألان الكلام، وأطعم الطعام، وقام وصلى والناس نيام)).

فعليكم عباد الله بقيام الليل، فهو عنوان الإيمان، ودليل الإحسان:

قال تعالى:  إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بما خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون  تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون  فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعلمون  [السجدة:15-17].

وقال تعالى:  إن المتقين في جنات وعيون  آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين  كانوا قليلا من الليل ما يهجعون  وبالأسحار هم يستغفرون [الذاريات:15-18].

وقد فرّق الله تعالى بين أهل القيام وغيرهم، فقال:  أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون[الزمر:9].

ولقد كان رسول الله  يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، وهو الأسوة الحسنة والمثل الأعلى، كما قال تعالى:  لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا  [الأحزاب:21].

ولما كان الشرف والعز أخوين استطرد بذكر ما يحصل به العز فقال: ((وعزّه استغناؤه عن الناس)) أي قوته وعظمته وغلبته على غيره في اكتفائه عما في أيدي الناس.

وهذه وصية رسول الله  لرجل قال له: يا رسول الله! دلني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس، فقال : ((ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس)).

ولذا قال الحسن: لا تزال كريما على الناس، ولا يزال الناس يكرمونك، ما لم تتعاط ما في أيديهم، فإذا فعلت ذلك استخفوا بك، وكرهوا حديثك، وأبغضوك.

وقال عمر : إن الطمع فقر، وإن اليأس غنى، وإن الإنسان إذا أيس من شيء استغنى عنه.

وقال الغزالي: من لا يؤثر عز النفس على شهوة البطن فهو ركيك العقل، ناقص الإيمان، ففي القناعة العز والحرية.

ولذلك قيل: استغن عمن شئت فأنت نظيره، واحتج إلى من شئت فأنت أسيره، وأحسن إلى من شئت فأنت أميره.

ودخل أعرابي البصرة فقال: من سيد أهل هذه القرية؟ قالوا: الحسن، قال: بم سادهم؟ قالوا: احتاج الناس إلى علمه، واستغنى هو عن دنياهم.

فيا عبد الله:

هي القناعة فاحفظها تكن ملكا                      لو لم يكن لك منها إلا راحة البدن

وانظر إلى من ملك الدنيا بأجمعها              هل راح منها بغير الطيب والكفن

نسأل الله أن يغنينا بحلاله عن حرامه، وأن يكفينا بفضله عمن سواه.