لم نَكد نفرغ من تكبيرات عيد الفطر المبارك حتى فوجئنا بوفاة الأستاذ الدکتور مصطفى خُرَّمدِل الكاتب و المترجم والمفسر للقرآن الكريم صبيحة يوم العيد. ولم يلبث أن دوّى الخبر على منصات التواصل الاجتماعي ناعية إلينا رحيل أحد رجال الدعوة الإسلامية عن عمر يناهز 84 عاما قضاها في خدمة ربه ودينه وشعبه و كل من بلغه صوته. كانت حياته مليئة بالإنجازات الكبيرة التي خلّفها ورائه لتكون نبراسا ينير طريق من يعشَقون عبودية الله والحرية المنشودة التي يتخلص بها أصحابها من نير العبودية لخلق الله و ينشرون الحب و التسامح للبشرية جمعاء.
نبذة عن حياته
ولد الأستاذ مصطفى خرمدل عام1936 للميلاد في قرية « دهبُکری» إحدى القرى التابعة لمدينة « مهاباد». بعد مدة انتقلت أسرته إلى مدينة مهاباد وتلقى فيها دروسه الإبتدائية حتى نهاية المرحلة الإعدادية. يقول الأستاذ خرمدل في حوار له مع مجلة «اندیشه اصلاح» أنه درس العلوم الشرعية حوالي ستة أشهر وله قصته التي يرويها على مسامعنا قائلا: «في السنة الثانية من الإعدادية كنت أرتاد إلى مسجد« شاه درویش» وكان إمام المسجد له دروس رمضانية و عنده ثلاثة طلاب يدرسون العلوم الشرعية. ذات يوم قال أثناء كلامه "كلّ من كان عاري الرأس فمأواه جهنم" فتأثرت من كلامه هذا وقررت أن لا أذهب إلى الإعدادية ومنذ ذلك اليوم تركت المدرسة وشرعت في دراسة العلوم الشرعية لمدة ستة أشهر و واصلت الدراسة الرسمية بنفسي».
عام 1963 التحق بجامعة طهران لدراسة مرحلة بكالوريوس في الأدب العربي. بعد نهاية هذه المرحلة، غيّر فرعَ دراسته إلى الدراسات الإسلامية (المعقول والمنقول آنذاك) في مرحلة الماجستير وكانت رسالته «الطبيعة المتناقضة في الزهاوي»، جميل صدقي الزهاوي، الشاعر والمفكر الكردي العراقي. بعد ذلك أخذ في دراسة مرحلة الدكتوراه في فرع «الثقافة العربية والعلوم القرآنية». بعد إكماله الدراسات العليا عُيّن مدرسا للأدب الفارسي في مدينة سنندج. وكان الأستاذ عميدا للكلية طيلة أربع سنوات وبعدها انتقل إلى التدريس في جامعة كردستان حتى عام 1997 وبعد ثلاث و ثلاثين عاما أحيل على التقاعد وغادر سنندج إلى مسقط رأسه مهاباد حيث سكن فيها وبدأ رحلته الثانية في التدريس في فرع الأدب العربي بالجامعة الحرة بمدينة مهاباد حتی عام 2015.
شخصيته
كان الأستاذ خرمدل رجلا قرآنيا بكل ما للكلمة من معنى - ولا نزكي على الله أحدا- حيث وقف معظم حياته لخدمة هذا الكتاب، موقنا بهدايته ورحمته للعالمين. ورغم كل المشاغل التي قد أخذت منه وقتا طويلا، إلا أنه كان يعيش بروحه ودمه في ساحة القرآن مدركا ما فيه الناس من ابتعاد عن كتاب الله، فشمّر عن ساعد الجد وخصص ستّ سنوات من عمره لتأليف «تفسير النور» باللغة الفارسية، الذي حظي بإقبال واسع بين الناس وقد ملأ فراغا هائلا كان يعاني منه توّاقو فهم كتاب الله، مما حثّ الأستاذ خرمدل أن يُتبعه بترجمة كتاب آخر بعدما عاش في ظلاله الوارفة، ألا وهو تفسير في ظلال القرآن الذي كان الأستاذ خرمدل يرى نفسه مدينا لصاحبه سيد قطب الذي كان له أثر بالغ في تكوين شخصيته الإيمانية، وقد استغرق ذلك العمل الجليل إحدى عشرة سنة من عمره وأحرز قصب السبق بين من هبّوا إلى ترجمته. فلا غروَ في ذلك لأن من عاش في ظلال « الظلال» واستروح ردحا من الزمن فی واحاته و استخرج من كنوزه اللآلي الثمينة سيكون ذا روح وثّابة وتواقة إلى مشاركة الآخرين ولن يبخل بما لديه.
إضافة إلى ذلك فقد قام بعمل آخر و هو تأليف « تفسیر المقتطف» باللغة العربية. وبما أنه عاش مع شعبه و لشعبه، لم ينس لغته الأم فكتب تفسيرا آخر باللغة الكردية وقد سماه« شنهى رهحمهت» بلغة بسيطة يفهمها الناس جميعا. ذات مرة سمعته يقول "ليتني كنت أعلم اللغة التركية حتى أتمكن من خدمة أخرى للقرآن الكريم وأفيد بها إخواني الأتراك" فيا لها من همة عالية ونظرة إنسانية إلى جميع الفئات دون أن يأخذ بعين الاعتبار الفواصل والألوان والأعراق، بل يرید الخير للبشرية كافة.
لم يكن الأستاذ خرمدل مؤلفا ومترجما يقبع في زاوية بيته غافلا عما يدور حوله في مجتمعه، بل كان ترجمانا حيّا لما يكتب ويترجم ويظهر بين فئات الشعب ويشارك في أفراحهم وأتراحهم متخلقا بخلق قرآني وناصحا أمينا لكل من يلقاه سواء في البيئة الجامعية أو المساجد والأسواق أو المجامع العلمية والأدبية. كل ذلك جعل منه قدوة يقتدى بها الناس في خلقه الجميل وتواضعه ورحابة صدره، وكان جلّ اهتمامه ابتغاء مرضاة ربه والعمل لما بعد الموت ولم يقصد أبدا كسب المناصب والمكاسب المادية وكان يقول " لقد عاهدت ربي أن لا أبخل بما لدي من العلم بل أقدّمه للناس جميعا" لقد كان الأستاذ خرمدل أهل الجود والعطاء ویشهد بذلك تفقّده الفقراء والمعوزين ودور الأيتام والمؤسسات الخيرية التي كان له دور بارز فيها. كما كان أهل السجود بحضوره الدائم في المساجد للصلوات المكتوبة وصلاة التراويح، وكان يرتاد إلى الحجرات التي تُدرّس فيها العلوم الشرعية في المناطق الكردية من قديم الزمان مُشجّعا الطلابَ القاطنين فيها إلى الجهد والمثابرة لمواصلة دراساتهم، وكان يمد يد العون إليهم ماديا في بعض الأحيان.
لابد من الإشارة إلى نصحه للناس ومحاضراته التي يلقيها في كثير من المساجد بطلب من أئمتها قلّما تجده يلقي محاضرة أو خطابا مستخدما كلمات مستعارة من الآخرين لينمّق بها كلامه. كان يعتقد أن تأثير الكلمات يعود لدرجة كبيرة إلی انبعاثها من القلب إلى القلب وكان لا يؤمن بالكلمات التي يتشدق بها بعض الناس وهم بعيدون كل البعد عن تطبيقها في حياتهم. كان رحمه الله يوصينا بتقوى الله وإخلاص النية والبعد عن سفاسف الأمور.
بصفتي كطالب درس على المغفور له مادة التفسير، فقد تعلمت منه دروسا قيمة مازلت أذكرها ولن أنساها. كان المرحوم يحثنا دائما أن نسلك مسالك البحث والتأليف والترجمة وكان عونا لنا في مواصلة دراستنا والقيام بأعمال قيمة وإن لم يكن النجاح حليفنا في بعض الأحيان.
خواطر
لنا خواطر جميلة مع الأستاذ خرمدل ينبغي أن آتي باثنتين منها وأحکیهما للقراء الأعزاء:
الأولى تعود إلى قبل أكثر من عشرين عاما عندما كنت طالبا في مرحلة الماجستير في جامعة كردستان وكان الدكتور يُدرّسنا مادة التفسير. عندما كان يدور بيننا نقاش حول موضوع ما، يقول لنا فأتوا بما يقنعني. وحینما لم نكن على علم كاف بما ندليه، كان يردّد تلك القولة الشهيرة " لولا الدليل لقال من شاء ما شاء". لكن عندما نأتي بالأدلة المقنعة، فيُنهي النقاشَ برفع يديه أمارة لقبول النقد وكان بذلك يعلّمنا دروسا كبيرة في التواضع و ترك الجدال في مناقشات لا طائل ورائها .
والثانية: قبل أربع سنوات عندما زارنا في مدينة سردشت برفقة الأخ جلال معروفيان وعدد من الأصدقاء، بعد الترحيب بالأستاذ والضيوف الكرام المرافقين له، قصصت له رؤيا كنت قد رأيتها قبل شهر من مجيئه إلينا. رأيته في المنام وقبّلت يده ثلاث مرات. كنت حائرا في تفسير الرؤيا و فكرت كثيرا ولم أجد تفسيرا يُثلج صدري حتى أقنعت نفسي شيئا ما بأن تلك التقبيلات الثلاث كانت لثلاثة أعمال قام بها الأستاذ المرحوم. كنت أرى أن له أعمالا كثيرة، لكن الأبرز منها كان تفسير النور، وتفسير المقتطف، وترجمة تفسير في ظلال القرآن، ففاجأني المرحوم بنبأ نشر تفسيره الجديد باللغة الكردية والذي قد أسماه« شنهی رهحمهت» في مجلدين، ففرحت فرحا بالغا ولم أتمالك نفسي إلا أن قبّلت يده مرة أخرى وأكملت التقبيلات الثلاث حالما بالرابعة صاحیا! رحم الله أستاذنا الحبیب وأدخله فسیح جناته.
مؤلفاته وترجماته
قام الدكتور خرمدل بتأليف وترجمة كتب قيمة باللغات الفارسية والعربية والكردية وأثرى بها المكتبة الاسلامية وقد طبعت بعضها مرات عديدة لما حظیت به من إقبال واسع من قبل القراء وإليكم قائمة بأسمائها:
مؤلفاته
1- تفسیر نور (باللغة الفارسية)
2- تفسير المقتطف( باللغة العربية)
٣- تفسیر شنهى رهحمهت( باللغة الكردية)
۴- صرف دستور زبان کردی
۵- گلبُن دانش
۶-گنجینه صرف زبان عربی
۷-گنجینه نحو زبان عربی
۸-مکالمه روزمره زبان کردی
۹- نحو زبان فارسی
۱۰- نگاهی گذرا به اعجاز علمی قرآن
۱۱-نماز، فرمان خدا
۱۲-در پرتو نور
۱۳-درس ها و پندهایی از قرآن
ترجماته إلى اللغة الفارسية
۱-الله، سعید حوی
۲-غريزة أم تقدير الهي، شوقي أبو خليل
٣- تفسير في ظلال القرآن، سيد قطب (١٥ مجلدا)
٤-المفصل في أحكام المرأة والبيت المسلم،الدكتور عبدالكريم زيدان (١٣ مجلدا)
٥-الفقه الميسر، الدكتور محمد طنطاوي
٦-أطواق الذهب، جار الله الزمخشري
الآراء