الدعوة إلی الله واجب من صمیم واجبات الأمة الإسلامیة وهي إن لم تکن واجبة علی کل مسلم بعینه تعد من الفروض الکفائیة علی حدها الأدنی ومن هذا المنظور علی عاتق کل مسلم ومسلمة بعینه أن یکون داعیا إذا لم یجد هناک من یقوم بهذه المهمة أو یقوم بها ولا یکفي جهده أو لا تترک أثره کما تستحق.

إن الدعوة إلی الله لا تفارق حیاة المسلم لحظة ما وهي تحتاج إلی حب وشغف قبل أن تحتاج إلی علم أو مرافق ما أو ظروف خاصة؛ ذلک أن الداعي قد یقوم بمهمته في أقسی الحالات ولو کان سجینا أو علی أعتاب الإعدام وهذا لا أقصده هنا وإنما أرید أن أتطرق إلی جانب آخر من الدعوة وهي کیف تتم الدعوة في ظل الحکومات الاستبدادیة والأنظمة المتغرطسة التي غالبا ما تحول دون الحرکات الدعویة وتقوم بالضغط علی الدعاة إلی حد الذي من قام بأمر الدعوة یعاني من أعظم الضغوط؟

ففي مثل هذه الظروف یبدو أنه لیس أمام الدعاة إلا ثلاثة طرق:

الأول: أن یؤثروا حیاتهم ومعیشتهم ویلتزموا بالحیادیة وعدم الولوج في السیاسة إلا بقدر ما یصونهم من الأخطار بناء علی الأخذ بالرخصة وترک العزیمة.

الثاني: الهجرة والجلاء عن الوطن والتوطین في بلاد أکثر حریة وأوفر فرصا للدعوة وقد یسیل لعابهم عند ما یقرءون عن تلک البلدان من ظروف ملائمة وحریات موجودة للدعاة وکرامة متوفرة لکافة أبناء البشر بغض النظر عن دینهم وعرقهم وجنسهم ویرون أن هناک للحیوانات الألیفة شأن أفضل بکثیر من إنسان ولها من الحقوق والواجبات ما لم تتوفر بعد لمواطني دول العالم الثالث.

هذا وإن کان صحیحا في کثیر من الحالات رغم أن الدعوة لا تخلو من مشقة وصعوبة عاجلة أو آجلة ولکنهم لم یدرکوا أن الظروف التي وفرت هناک ما تم توفیرها إلا بفضل جهود أبناء تلک الدول وتفاني أهلها وربما صب دمائهم في الشوارع؛ غیر مدرکین أن هؤلاء حاربوا واقعهم عبر سنین والعقود وضحوا في سبیله حتی فرضوا علی البلاد واقعا غیره وأصبحوا هم صاحب القرار بدل السلطات وهذا من سنن الله في الأرض ولن تجد لسنة الله تبدیلا: "إن الله لا یغیر بقوم حتی یغیروا ما بأنفسهم".

وسواء أن یکون هذا التطور اجتماعیا أو سیاسیا أو اقتصادیا؛ أمامنا أفضل مثال هو دولة الیابان فهل تطورت اقتصادیة بفضل هجرة أبنائها إلی خارج البلاد بعد أن دمرت بأکملها إثر الحرب العالمیة الثانیة أو أن أنهم آثروا البقاء والقیام بعمارة بلادهم وأرضهم وتطورها لتصبح الیابان من أکثر الدول تقدما في العالم؟

الثالث: القیام بمهمة الدعوة وتحمل أعبائها وتفویض الأمر إلی الله؛ لأنهم أصبحوا علی یقین بأن الدعوة في ظل مثل هذه الحکومات ستکون لها عواقب ربما وخیمة ولکنهم اتخذوا سبیلهم ویرون أن البقاء في الوطن هو الخیار الأفضل لهم لأن الوطن قد یحتاج إلی أبنائه خاصة الأبناء الصادقین الذین "لا يقبلون الضيم ولا ينزلون أبداً علي رأي الفسدة ولا يعطون الدنية أبداً من وطنهم أو شرعيتهم أو دينهم" وأن فراغهم سیمهد الطریق لهیمنة الطغاة أکثر وأکثر وهناک لیس من یعد شوکة في أعین أعداء الحریة.

إن بقاءهم في أوطانهم ولو مسجونین هو أفضل من کونهم أحرارا في البلدان الأخری لأنهم أحرار في أي ظروف کانت وحصل لهم ما حصل ولو کانوا سجنین وهم یقصرون أمد الظلم وأوان الظالم ویعکرون صفوه ویجرحون مشاعره هذا وأن الظلمة ربما یساعدون الطریق ویعطون لهم الضوء الأخضر للخروج لعدم الارتیاحهم منهم. فضلا عن أن تسجینهم ربما یؤدي إلی تعزیز شوکتهم وتحریک أقرانهم وإیقاظ أبناء الوطن وفي نهایة المطاف أن استشهادهم سیروي شجرة الإسلام.

إن هؤلاء یعلمون جیدا أن الرجال إنما یتم صنعهم في أحوال قاسیة وظروف صعبة لا في حالات مریحة وأوضاع آمنة وأن الحریة إنما تؤخذ ولا تعطی أبدا دون تضحیة وبذل جهود مکثفة ویدرکون أن کلمة الحق إنما تؤتي أکلها بعد التعایش مع المدعوین والتعامل مع الأتباع وأنهم مأمورون بإنذار قومهم وشعبهم قبل کل شيء وأنهم أحری أن یدرکوا لسان قومهم لأن الله تعالی ما أرسل نبيا إلا بلسان قومه.

فإذا خلت البلاد من أبنائه المشفقین علی الناس الصادقین مع الله ومع أهلهم الجاهدین في سبیل حریاتهم وتحدید مصیر شعوبهم فمن یبقی إلا حفنة من السفهاء والفسقاء الذین قد استخفهم الطغاة وتلاعبوا بهم وفق مطامعهم وأهوائهم؟