يجب أن يكون الخطاب الديني الذي يُواجه به الناس على مستوى ينسجم مع مزاجهم وعرفهم اللغوي ومستواهم الفكري والثقافي, وأن يتمتع بجاذبية ترغم من يصادفه على سماعه وقبوله أو تفهمه. وفي عصر الذرة والمجرة يجب أن يكون الخطاب الديني راقياً يتناسب مع رقي العصر ورقي العقول ومستواها الفكري والثقافي, ويجب أن يكون بلغة العصر التي يألفها أبناء العصر ولا يستوحشونها. يجب أن نراعي روح العصر, فلسنا في عصور الخيام والنياق, ولا في زمن اللات والعزى حتى نتقمص شخصية العربي الأول في خطابه وطريقة إلقائه وحركات عينيه وحاجبيه.! والتكلف في كل شيء مكروه وذميم, وفي المنطق أكثر ذماً, حين ينفخ الرجل خديه ويعطف شدقيه ويلوي لسانه في فمه طالباً للفصاحة, كما يظن.! التكلف والتقعر في الكلام مع كونه مقززاً ومنفراً للسامعين –سيما في عصرنا- فهو مكروه وبغيض في الشريعة.! وفي الحديث: "إن الله عز وجل يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه تخلل الباقرة بلسانها".

وقد روي فيه حديث شديد, في إسناده لين, أخرجه أحمد عن معاوية رضي الله عنه، قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين يشققون الكلام تشقيق الشعر". وفي "فيض القدير": "(تشقيق الشعر) بكسر الشين وسكون العين, أي: يلوون ألسنتهم بألفاظ الخطبة يميناً وشمالاً, ويتكلف فيها الكلام الموزون المسجَّع حرصاً على التفصح واستعلاءً على الغير تيهاً وكبراً".

إنه أسلوب ينافي الخلق الكريم الحسن, وله آثار سلبية سيئة يحصل بها عكس المقصود من الكلمة التي ينبغي أن تهدي ولا تضل, وتبشر ولا تنفر, وتحبب وتزين الدين للناس ولا تُبغِّضهم فيه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً، وإن أبغضكم إليَّ وأبعدكم مني مجلساً يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون". والثرثار هو الكثير الكلام بتكلف, والمتشدق المتطاول على الناس بكلامه, الذي يتكلم بملء فيه تفاصحاً وتفخيماً وتعظيماً لكلامه.

يقول الإمام النووي رحمه الله: "يُكره التقعيرُ في الكلام بالتشدُّق وتكلُّف السجع والفَصاحة والتصنّع بالمقدمات التي يَعتادُها المتفاصحون وزخارف القول، فكلُّ ذلك من التكلُّف المذموم، وكذلك تكلُّف السجع، وكذلك التحري في دقائق الإِعراب ووحشي اللغة في حال مخاطبة العوام، بل ينبغي أن يقصد في مخاطبته لفظاً يفهمُه صاحبُه فهماً جليّاً ولا يستثقلُه".

وإذا كان التقعر والتفيهق والتشدق والتزيد في المبالغة لطلب الفصاحة مكروهاً من العربي الذي لا يعرف اللحن ولا يستغرب الغريب من اللغات ولا يجد صعوبة في نطق المفردات والتصرف في الكلام فما بالك إذا وقع منا نحن أبناء اليوم.؟! لقد نبه على هذا أبو عثمان الجاحظ في زمانه, فكيف نقول نحن في زماننا.؟! ولا شك أن البيان وحسن الكلمة مطلوب ومستحب شرعاً وعرفاً ولغةً, لكن البيان المطلوب هو الوضوح واختيار الألفاظ التي تتشر بها الأسماع لسهولتها وسلاستها, وليس من البيان تعقيد الكلمات والتكلُّف والتقعر فيها, وإنما هو الكلمة الجذابة التي تجبر السامع على الإصغاء إليها وتزيد الحسن حسناً والجميل جمالاً. هذا هو البيان الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن من البيان لسحراً".

وقد استحبه الفقهاء في خطب الجمعة وفي المواعظ والدروس. قال النووي: "لا يدخل في الذم تحسين ألفاظ الخطب والمواعظ إذا لم يكن فيها إفراط وإغراب، لأن المقصود منها تهييج القلوب إلى طاعة الله عز وجل، ولحسن اللفظ في هذا أثر ظاهر".

إن مخاطبة الجماهير وسيلة يراد بها تبليغ رسالةٍ وهدفٍ محدد, وليست غاية وهدفاً بذاتها, ويجب ألا تأخذ طابع المُتعبَّد به الذي لا يقبل التغيير والتبديل. لا بد أن يتغير الخطاب بحسب وعي المخاطبين وثقافتهم وعقلياتهم, فالله لم يبعث الأنبياء كلهم بلسان واحد ولا بطريقة معينة في الخطاب, بل بعث كل نبي بلسان قومه الذي يفهمونه ويعونه ولا يجدون رفضاً أو حساسية في سماعه أو قبوله, وبمنطق مألوف غير غريب ولا مستنكر لديهم.

كما قال الله (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء) وهذا أحد مظاهر التيسير كما في قوله تعالى (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر) إن الناس يحبون أن يسمعوا من الواعظين والمرشدين ورجال الدين-إن صح التعبير- خطاباً يألفونه ليس غريباً عنهم, خطاباً يتعايشون به ومعه, قريباً من أفكارهم وثقافاتهم. من المهم بمكان مراعاة هذا المزاح العام وإيثار التحدث باللغة التي يتحدث بها المخاطَبون كي يتوصل المرشد والخطيب إلى قلوب الناس ووعيهم ويجد الفرصة السانحة للتواصل والتأثير والإقناع. ولعل هذا هو السبب في استعمال الرسول صلى الله عليه وسلم لبعض الألفاظ -التي نهى عنها في بعض أحاديثه- لشيوعها بين المجتمع آنذاك.

وذلك مثل كلمة "العتمة" يعني: العشاء, و"الكرم", وهو: العنب. فقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عنهما, فقال: "لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم، ألا وإنها العشاء, وإنهم يسمونها العتمة". وثبت في "الصحيحين" أنه قال: "ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبواً". وقد نحى بعض العلماء إلى القول بالنسخ, وهو غير صحيح, لتعذر معرفة المتقدم والمتأخر منهما, كما قاله العلامة ابن القيم. لسنا ندعوا إلى ترك اللغة العربية وهجرها, بل ندعوا إلى إحيائها وبثها ونشرها, ونسعى لعودتها إلى مكانتها العلمية والاجتماعية في حياة الشعوب الإسلامية, كما كانت في القدم لغة العلم التي يتشرف بالانتساب إليها أبناؤها, ويفخر بتعلمها غيرهم.

لكن التحدث باللغة العربية لا يجب أن يكون تجويداً بغنة وإقلاب وقلقلة, كما يفعل كثير من الخطباء والواعظين, الأمر الذين جعل التحدث باللغة العربية مدعاة للسخرية والاستهزاء بالمتدينين.! وهذه عاقبة التقعر والتشدق ومحاولة التميز على الآخرين وإظهار المعرفة والحرص على اللغة العربية.! إن القرآن هو أفصح الكلام على الإطلاق, وهو المصدر الأول لمعرفة اللغة العربية وقواعدها, لكنه مع بلوغه الذروة في الفصاحة والبيان والأصالة فهو في غاية العذوبة والسلاسة.

ولو أننا تأملنا في شعرِ أو نثرِ أفصحِ العرب لرأينا من التعقيد والغريب ما لا ترى عُشْره في آيات القرآن التي نستغرب اليوم بعض كلماتها بسبب العجمة التي عوَّقت عقولنا وألسنتنا. لا يجب لَيُّ اللسان والأشداق حتى يقال إننا نتحدث العربية ونروم إحياءها, بل إننا بذلك نساهم –وبقوة- في القضاء على ما بقي من الرغبة فيها عند عموم المسلمين. ما الذي يمنعنا أن نتحدث العربية بطريقة تلقائية دون أن نشد أشداقنا؟!.

ما الذي يمنعنا من التحدث باللغة العربية البيضاء التي تقتفيها الصحافة العربية المعاصرة, والتي أثرت في العقلية البشرية المعاصرة بسبب تأثير الإعلام على العقل العربي المعاصر.؟! إن الشعوب العربية كلها تستمع إليها وتعي ما يقول مذيعوها وتفهم كلامهم دون أن تشعر بنفرة, والسبب أنهم ألقوها ببساطة وتلقائية, خالية من التقعر والتفخيم والمبالغة في الفصاحة التي تُخرج الكلام عن هدوئه وجماله وإيقاعه المقبول.

كثير من الشعراء المعاصرين ينشدون الشعر عربياً فصيحاً أصيلاً, والجماهير تطرب وتستمتع وتصفق وتعي معانيه, بينما يلقيه آخر و-خصوصاً من المتدينين- فيقع على الأسماع بطريقة منفرة إلى حد بعيد, فيذهب جمال الشعر وسحره, لغلبة التشدق والتفيهق والمبالغة في تحري اللغة العربية القديمة.! لا يمكن القول إن الشعوب العربية اليوم لا تحب لغتها الفصحى, لكنها -بلا شك- لا تحب التكلف في نطق الكلمات وفي مخارجها وطريقة أدائها التي أصبحت سمة وعلامة بارزة على المتحدثين باسم الدين إلا القليل منهم.

ومع انتشار النصوص النبوية السالفة الذكر التي تنهى عن التشدق والتكلف والتقعر ولوك اللسان إلا أننا نلاحظ أن طبيعة الخطاب الديني تحمل هذه الأساليب والصفات, فنسمع لهم إذا تحدثوا قعقعة وصفيراً, يشدُّون عضلات الوجه والفك, حتى إذا تحدث أحدهم كأنه يتحدث تحت الماء, تنتفخ أشداقه ويضم شفتيه ويبسطها بسطاً غريباً.! وليسوا على حد سواء, فمنهم المستقل ومنهم المستكثر, لكن في العموم فإن هذه الأساليب سمة بارزة في المتحدثين باسم الدين.! إنني أتعجب من فصاحة بعض المسؤولين العرب وحسن خطاباتهم وتحريهم اللغة العربية الفصيحة والألفاظ العذبة الرائقة ولا نكاد نسمع لهم لحناً واحداً في خطاب ربما يستمر ساعة أو أكثر. وأغلب القنوات الإخبارية تعرض تقاريرها بلغة عربية أصيلة يستسيغها كل من يسمعها لسهولتها وخلوها من التقعر والتشدق.

فإذا تحدث الدعاة والمتدينون باللغة العربية سقطت لغتهم في هذه الأساليب الذميمة.!! أظن أن الشعور ببعد الناس عن اللغة العربية وتوجههم نحو اللغات الأخرى كان له ردة فعل سلبية على الخطاب الديني الذي يروم الدعاة من خلاله إحياء اللغة العربية ومقاومة اللغات الأخرى, فاشتد حرصهم حتى أدَّى بهم إلى الوقوع في التكلف والتشدق الذي نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم, وتجافوا بهذا عن لغة القرآن الميسرة الهادئة.