لم أجد مطلبا تنادت به الأمم والشعوب واجتمع عليه العامة والخاصة مثل مطلب الحرية.

ولم أرصد راية جمعت بين المتخاصمين، ووحدت بين المختلفين، واصطف حولها الجميع، والتقى على رفعها القريب والبعيد ، وأمسك بأزمتها الفرقاء سوى راية الحرية.

 وقد رأيت أن أكبر ما يمس حياة الإنسان هى حريته، لأنها تعادل حياته، وبدونها يصبح الإنسان جسدا أشبه بالميت وإن كانت تدب فيه الروح مما أطلق عليه البعض اسم العبودية المعاصرة .

 ومما تقرر فى تشريعنا الإسلامى عقوبةَ لمن يقتل إنسانا خطأ  تحرير رقبة ، لأن الرق أشبه بالموت والتحرير أشبه بالحياة فكأنه أحيا نفسا نظير التى قتلها .

كما تعد الحرية المشترك الإنسانى الأكبر بين أحرار الإنسانية على اختلاف معتقداتهم وجنسياتهم وألوانهم وأعراقهم ..وبدافع من الحرية كان كثير من الذين عملوا على كسر الحصار عن غزة الصامدة من غير المسلمين من أحرار العالم ، الذين عزموا على غسل وجه الإنسانية الذى لطخته سياسة الظلم والاستكبار فى العالم المتحضر. ، كما أن الذين كسروا الحصار عن المسلمين المحاصرين فى شعب أبى طالب ثلة من أحرار العرب من غير المسلمين .

وبوازع من إنسانية الأحرار عقد بعضهم حلف الفضول فى مكة قبل مبعث الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم لنصرة المظلوم  وإغاثة الملهوف ورد الحقوق لأهلها ، والذى قال عنه النبى صلى الله عليه وسلم: "لقد شهدتُ في دار عبد الله بن جُدعان حلفاً لو دُعيتُ له في الإسلام لأجبت " .

وفى عفوية إنسانية رفض عمر بن الخطاب الظلم والضيم فى واقعة القبطى الذى ضربه ابن عمرو بن العاص وانسابت على لسانه عبارته الشهير " متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا "

وقد عرف فقهاؤنا الحرية من قديم بأنها القدرة على التصرف بملء الإرادة والاختيار..وبدون هذه القدرة يعد التصرف ساقطا لا أثر له .

 وتعد الحرية أكثر القضايا إثارة فى حياة بنى الإنسان ، ولذلك تقاتل الشعوب لتنال حريتها أو تموت دون ذلك، فبها تحيا وتثبت لها الإرادة، وبها تمضى نحو ما تصبو إليه، ثم هى أصعب المعادلات فى الحياة السياسية حيث تدور رحاها بين حاكم أو نظام يريد تقييدها وتضييقها، ومحكومين يريدون إطلاقها وتوسيعها ،لأنهم يعتقدون أن إنسانيتهم لا تتحقق بدونها ، وأنها الضمانة الأكيدة لنيل حقوقهم ، وأنها البوابة الكبرى للإصلاح والتغيير ، كما أنها مفتاح الاستقلال والسيادة والنهوض والإبداع .

وإذا تناولت الدساتير الحريات بحث كل مشغول بها عن نصيبه منها، الرجل والمرأة، المسلم وغير المسلم، الأفراد والأحزاب، الهيئات والمؤسسات، الإعلاميون والحقوقيون وغيرهم .

ولقد كان التغنى بإطلاق الحريات فى بلاد العالم الثالث حديث الساسة والزعماء فى كل منتدى ومحفل، دون أن ترى الشعوب لذلك أثرا، ويطول ليل حلمها بالحرية بطول حياة زعيمها، وتمكنه من المكث فى سدة الحكم على حراب أجهزته الأمنية ، ومنظِّرى الإفك وقالة السوء.

ويبقى انتزاع الحرية رهين صراع الإرادات بين شعوب تبذل وتضحى وتعمل من أجل ذلك، وحكومات تراوغ وتكذب وتهدد وتبطش، ومع ذلك تتغنى بالحرية التى تنعم بها شعوبها .

وفى صحيح الفهم والفقه قبل أن ننادى بتطبيق الشريعة ونقول: اقطعوا يد السارق، واجلدوا الزانى، وعاقبوا السكارى نقول: أطلقوا الحريات، ودعوا الناس يعبرون عن أنفسهم فى مناخ آمن، وأطلقوا سراح المعتقلين السياسيين، وفكوا قيد سجناء الرأى ، أطعموا الجياع، وداووا المرضى، وحلوا مشكلة البطالة، واقضوا على العنوسة، أكرموا أعظم مخلوق فى عالم الوجود فهذا جوهر رسالة الإسلام..