رغم أن الحدث المصري لا يزال اليوم في طور المخاض، ولا نستطيع الزعم بإمكان التنبؤ بمآلاته في تفاصيلها، فإن الحاصل منه مثقل بالدروس التي ينبغي استخلاصها وتعميق البحث فيها. وأقتصر في السطور التالية على بعضها:
1- إن الدرس الأول الذي يستحق أن نشير إليه هو التوكيد على دلالة الثورات العربية، والتوكيد على حقيقتها، ضد الإعلام المغرض الذي يحاول تسفيهها، وجعل الانقلاب عليها هو الثورة!
إن الربيع العربي إيذان بلحظة تاريخية، جديدة في تاريخنا المعاصر، ولاشك أن الثورات العربية -على تعدد نماذجها- كانت في جوهرها متشابهة في القيم والدوافع التي حركتها، التي هي قيم مقاومة قوى الاستبداد والتسلط والفساد..
إلا أن نجاح الثورة لا يعني تراجع تلك القوى، بل كان من الطبيعي أن تبدي الكثير من المقاومة لأي تغيير أو إصلاح. أجل إن ما يسمى بـ'الدولة العميقة -وأسميها 'الدولة السفلى'- لابد أن تستعصي على التغيير وتقاومه، لأن مصلحتها في استمرار النهج القديم.
والنموذج المصري أوضح مثال على تمنع قوى الاستبداد.. فالانقلاب العسكري تجلى سافرا بعنف واستبداد، منذ أول لحظة (اختطاف رئيس منتخب، إسكات الصوت الإعلامي المخالف، استباحة دم المتظاهرين وقتلهم بدم بارد، تحريك ماكينة هائلة من الإعلام لتمرير مخطط الانقلاب...)
2- والدرس الثاني المستمد من الأول أو اللازم عنه هو معرفة حقيقة الدولة، ومدى تعقيد بنيتها. فلا يصح الاعتقاد في كون الثورة بمجرد حدوثها تحدث تحولا سياسيا جذريا في واقع وبنية الدولة، بل إن الأمر عكس ذلك تماما، ولذا من الخطأ الاعتقاد بأن النظام الذي تمت الثورة عليه صار نظاما بائدا أو سابقا! فيتم الحديث عن بقايا النظام البائد، وننسى أن النظام الجديد -لا أقول لم يستقر بعد- بل إنه ليس موجودا بعد، حيث لا يزال جنينا في حالة تستلزم الرعاية والحماية..
3- كما يستفاد من الحدث المصري أيضا أنه ليس ممكنا تغيير دولة بمجرد تغيير شخص حاكمها، فالتجربة التاريخية تعلمنا أن كثيرا من التغييرات التي مست شخوص الدولة لا تغير فعليا في منظومتها ومؤسساتها. وخاصة إذا كانت منظومة الدولة 'السابقة' متجذرة، ولها شبكة هائلة من المنتفعين منها.
وهذه الملحوظة تطابق حتى اللحظات التاريخية الماضية، أقصد حتى المجتمعات التقليدية التي لم يشهد النظام الإداري للسلطة فيها تطورا وانتظاما معقدا في المؤسسات وبنية العلاقات، فكيف هو الحال اليوم بعد ميلاد الدولة الإدارية التي ترتكز على نظام بيروقراطي ضخم، له آليات اشتغاله ومنطقه الذاتي.
لقد أدرك السوسيولوجي الألماني ماكس فيبر قوة البيروقراطية ومآلها منذ القرن التاسع عشر، وحذر منها، وهو بذاك كان ذا قدرة استبصارية فريدة لنمط تطور الاجتماع السياسي الحديث.
كما أن بن خلدون، رغم أن زمنه الاجتماعي والسياسي لم يكن قد أفرز نمطا متطورا في التنظيم الإداري للعلاقة السياسية، نجد لديه ملاحظات قيمة في المآل بعد الملك، وكيف أن منطق 'الدولة' يأكل حتى العصبية وكذا العقيدة التي أسستها. وهذا تعبير عن أن ثمة فارقا نوعيا بين لحظة ما قبل السلطة ولحظة امتلاكها.
4 - إن الذي يتسلم السلطة ينظر في البداية فيرى أمامه أدوات وإمكانات هائلة تحت تصرفه، فيحس في الأيام الأولى باقتدار، لكن مع مرور الأيام ينقلب الشعور، فما كان يظنه أدوات تحت تصرفه، ليست في حقيقتها أدوات مطواعة، بل هي قادرة على أن تتمنع عليه، وقد تمارس نفوذا عليه، فيصبح هو نفسه أداة تتصرف بها تلك التي ظنها أدوات.. وتلك هي إحدى أهم خصائص البيروقراطية.
إن النظر في خطابات الرئيس المصري محمد مرسي تكشف عن أن أكثر من يستشعر ثقل البيروقراطية هو الممارس للحكم الذي يطمح إلى تغيير مسار العمل في نطاق اختصاصه وسلطته، حيث يدرك مدلول 'الدولة السفلى' عندئذ إدراكا ملموسا.
فحتى قراراته الأكثر قوة بمجرد ما تخرج من مكتبه، تصير مرتهنة بالمنطق البيروقراطي ولوبيات النفوذ، القادرة على تنزيلها بطريقة معكوسة، أو في أفضل الأحوال إعاقة تطبيقها..
وقراءة عام من حكم الرئيس مرسي تظهر فعلا أنه لم يترك لحظة واحدة دون أن يفتعل خصومه معوقات لإفشال عمله، هذا دون أن يعني قولنا هذا أنه لم تكن لديه أخطاء ذاتية.
5- إن الخطأ الأكبر لمرسي وجماعة الإخوان المسلمين هو عدم تقديرهم الجيد لشروط لحظة الانتقال، التي تتطلب تغليب منطق التشارك.
ورغم أن بعض الخطوات كانت في اتجاه توسيع المشاركة في الحكم، إلا أنها كانت جد محتشمة، ولم تكن تعبر عن إرادة حقيقية في إشراك مختلف الأطراف السياسية، حيث بدا مرسي وإخوانه مصرين على المشي بمفردهم، وكانوا يقرؤون نتائج الانتخابات قراءة رياضية لا قراءة سياسية، فكانت قراءة خاطئة، تقتصر على النظر في عدد الأصوات، لا النظر إلى منطق الواقع واشتراطاته التي تستلزم إشراك الفاعلين السياسيين بدل تركهم خارج القاعة فيسرقهم شفيق وتيار الفلول.
6- إن ما يسمى بـ'الدولة العميقة' -وأحب أن أسميها بالدولة السفلى، حيث أجد في لفظ السفلى أفضل المعاني الدالة على الهبوط والسفالة والتخفي في التحت، أي أفضل مما يعنيه مفهوم العمق الذي لا تستحقه- كانت ولا تزال حاضرة، ولا يمكن للرئيس ولا لحزبه، ولا حتى لكل من انفتح عليهم أو أشركهم في الحكم -وهم قلة- أن يحكموا بمعزل عن مؤسساتها.
فكان لابد لسفالة الدولة السفلى أن تتجلى سافرة لإعاقة التغيير.
ولم يكن ممكنا للرئيس أن يمارس الحكم خارج بنية الدولة السفلى، كما أنه لا يمكن أن يستعمل هذه البنية لمشروعه، بسبب فسادها واعتيادها على استعمال منصب الحكم بمنطق التسلط والفساد. ولذا ما كان بالإمكان أن ينجح التغيير ما لم يشرك القوى الثورية على اختلافها.
ولتحقيق هذا الإشراك لا بد من الوعي باختلاف القوى التغييرية، ومن ثم فإن طرح برنامج سياسي مثقل بمفرداته الإسلامية، لن يكون ممكنا تحصيل الشراكة عليه. ولذا فالهدف الذي كان ينبغي التركيز عليه هو معالجة المشكلات الاقتصادية، والتمكين لقيم الديمقراطية.