ضرورة التأصيل الإسلامي

يعتبر موضوع التأصيل الإسلامي للعلوم بشكل عام و للعلوم النفسية بشكل خاص، من المهام  العظيمة الملقاة على كواهل الباحثين المتخصصين  كل  في مجاله، وقد ظهرت خلال السنوات الأخيرة دعوات من المتخصصين لتأصيل العلوم تأصيلاً إسلاميا، وربطها  بالجذور الإسلامية  المبثوثة في آيات  القران الكريم  وأحاديث  الرسول  صلى الله عليه وسلم  ، بالإضافة  إلى ما كتبه علماء  المسلمين الأوائل  في موضوعات تبين الاستفادة منها  في التخصصات المعاصرة.

وليس معنى ذلك أن جميع ما يقع تحت أيدينا من معطيات الفكر الغربي هي أفكار ونظريات باطلة ، ولكنها كغيرها فيها الغث والثمين وفيها الصالح والطالح ، ولكن إلى جانب هذه المسلمات مع تصارع الثقافات واختلاف الحضارات نجد أنفسنا ملزمين بأن نحدد معايير تكون منطلقاً لتقييم معطيات أي فكر وضعي حتى من المسلمين أنفسهم لنقبل ما نجده فيه مصلحة الأمة ونرفض ما سواه ، لأن الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها فهو أحق بها ، ولعلنا من خلال التأصيل نخرج بعده فوائد نلخصها فيما يلي:

1- تنقية وتصفية فكرنا النفسي من الشوائب الدخيلة عليه وتطهيره من الأخطاء والخرافات والبدع.

2- النظر للعلوم الحديثة في الإطار الإسلامي  ومبادئه وغاياته ، لنخضعها  لمبدأ القبول أو الرفض أو التعديل.

3- بيان تميز الفكر الإسلامي بمصادره الربانية من كتاب وسنة ، من خلال تناوله وطرحه لجميع القضايا التي تهم البشرية، مما يعنى صلاحه لكل زمان ومكان.[1]

التأصيل العلمي للدراسات النفسية و فكرته العامة هي أن الوجهة الإسلامية أوسع من الوجهة السائدة حالياً؛ و هي الوجهة القادرة على تغطية الظاهرة النفسية بأبعادها و مستوياتها المختلفة؛ ففي الوجهة الإسلامية إغناء لموضوع علم النفس و مصادره ومناهج البحث فيه.وبهذا التأصيل يزول التنافر المعرفي الذي يعيشه آخرون بين إسلامهم و اختصاصهم العلمي، فأولى الناس بهذا النوع  الجديد من الدراسات النفسية هم علماء النفس  المسلمون إذا تشبعوا بثقافة إسلامية تزيل عنهم التنافر بين الإسلام و التخصص العلمي.[2]

و إلیکم بيان الاضطرابات النفسية عند النساء في المنظور الإسلامي

أولاً: الاضطرابات النفسية المصاحبة للحيض في المنظور الإسلامي

الحيض سبب من أسباب مؤدية إلى الاضطراب النفسي عند النساء و جاءت في المنظور الإسلامي كالتالي:

قال الله تعالى: ﴿وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحيضِ وَ لاتَقْرَبُوهُنَّ حَتّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوّابينَ وَ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرينَ﴾ [3] المحيض في الآية اسم الحيض أي: الحدث . قل هو أذىً؛  أي:شيء يتأذى به وأصل الكلمة من السيلان و الانفجار؛ و الأذى كناية عن القذر[4] والضغوط النفسية والجسمية. و المرأة في أيام الحيض لها آلام في النفس والجسم و لا تستطيع أن تفعل أمورها الاعتيادية وتحتاج إلى ملاطفة و مساعدة في كافة المجالات كما تشير إليها الآية بقوله: فاعتزلوا النساء في المحيض؛ أي اجتنبوهن واتركوا وطأهن في زمان المحيض وجاء على لسان بعض المفسرين :دعوهن وشأنهن و لا تحملوا عليهن أي مسؤلية في تلك الأيام لأن الله -تعالى- رفع عنهن التكاليف العبادية كالصلاة والصوم لعدم استعدادهن و وجب عليهن قضاء الصوم دون الصلاة تخفيفاً ورحمة و يكتب لها ثواب الصلاة كاملاً أيام الحيض لأن ترك المرأة الصلاة ليس عن تقصير و لكن عن إلزام من الله- تعالى- لا تملك مخالفته، فهنا يكون تركها للصلاة طاعة لربها و امتثالاً لأمره فتثاب عليه كما يثاب الرجل على عدم تركه الصلاة!.

يقول محمد سعيد رمضان البوطي حول هذا الموضوع: المرأة خفف الله عنها بعض الوظائف الدينية و أسقطها عنها، فهي لا تُكلّف بالصلاة أثناء المحيض...ولكن دون أن ينقص شيء من أجرها بسبب ذلك.إذ إن الأمر ليس عائداً إلى تقصير منها و لكنه عائد إلى  تخفيف من الله عنها.والمرأة توصف في هذه الحالة بأنها ناقصة التكاليف الدينية و معاذ الله أن يكون المعنى أنها مقصرة في دينها،إذ ليس لها أي اختيار في أمر فرضه الله عليها و من أوضح الأدلة على هذا أن البيان الإلهي قرر في أكثر من موضع من كتاب الله - عز وجل- أن أجر الرجل و المرأة الملتزمين بدين الله سواء،لا يعلو الرجل على المرأة و لا العكس.من ذلك قوله- عزوجل- : ﴿ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ﴾[5] فكلام الله هنا مشروط بالعمل الصالح، والمرأة ممنوعة في النفاس و المحيض من أهم الأعمال الصالحة، و هو الصلاة، فلم يتحقق الشرط الذي أنيط به الأجر لكل من الرجل والمرأة لماذا؟

فالجواب:إن الاستجابة لأوامر الله-تعالى- سعياً لمرضاته هي مصدر الأجر والثواب ؛ و الاستجابة كما تكون بالأفعال الإيجابية، تكون أيضاً بالالتزامات السلبية.فالمرأة التي كلفها الله -تعالى - بعدم القيام إلى الصلاة مدة المحيض،لاشك أنها تثاب على النهوض بهذا التكليف،مادام قصدها الاستجابة لأمر الله-تعالى- فمنعها عن الصلاة هذه المدة،كقيام الآخرين إلى الصلاة في المدة ذاتها.كلاهما مصدر مثوبة وأجر،مادام كل منهما مندفعاً إلى اتخاذ الموقف الذي كلف به،تحقيقاً لأمر الله -تعالى-وسعياً إلى مرضاته-سبحانه-[6] ومثل الصلاة، الصيام؛ فعلى الرغم من أن المرأة تقضي ما أفطرته من أيام رمضان إلا أنه يحتسب لها أجر صيام شهر رمضان كله،كما لو صامت أيامه کاملة  .لقد أعفى الله-تعالى- المرأة من الصلاة و الصيام أيام الحيض رغم أن الصلاة عماد الدين ، و هذا عجيب و مثير للحيرة و التساؤل، فالصلاة لا تسقط عن المسلم بحال:لا عند الخوف و لا أثناء السفر و لا فی حالة  المرض الشديد.و لعل سبب الإعفاء هو الحالة الَمَرضية التي تعانيها المرأة أيام الحيض مما يستوجب التخفيف عنها . وانظر إلى آثار رحمة الله-تعالى- بالمرأة،كيف خفف عنها واجباتها أثناء الحيض فأعفاها من الصلاة و الصيام و لم يطالبها إلا بقضاء الصيام دون الصلاة.[7] بناءً على هذا؛ الحيض كما أشار إليه- سبحانه- أذىً وسبب هام من أسباب الاضطراب النفسي عند المرأة وكلمة (أذىً) تلقي هذا المعنى التي استنبط منها الاضطراب النفسي، أما بالنسبة  لوقوع أحكام كالطلاق فإن الشارع الحكيم ورسوله الكريم أمرا أن لا تطلق المرأة في الحيض  وينقسم الطلاق كما جاء في كتب الفقه إلى طلاق سني و بدعي ؛ فالطلاق السنی: أن  يطلق الرجل امرأته التي دخل بها طلقة واحدة،في طهر لم يجامعها  فيه  قال تعالى: ﴿الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساکٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْريحٌ بِإِحْسانٍ وَ لا يَحِلُّ لَکُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْکَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِکَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾[8] و قال تعالى :﴿  يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا﴾[9]

و قد فسر النبي -صلى الله عليه و سلم- الآية :حين طلق ابن عمر امرأته و هي حائض، فسأل عمر بن الخطاب رسول الله-صلى الله عليه وسلم-عن ذلك؟ فقال رسول الله-صلى الله عليه و سلم-: مُرهُ فليرجعها،ثم ليُمسكها حتى تطهر ، ثم تحيض ، ثم تطهر ، ثم إن شاء أمسك بعد ذلك، و إن شاء طلق قبل أن يمسّ، فتلك العدة التي أمر الله- سبحانه -أن تطلّق لها النساء.[10] يستنبط من الآية والحديث أنهما يهتمان بأحوال المرأة في أيام الحيض و يرفعان عنها ثقل تطبيق أحكام الطلاق دفعاً للاضطراب النفسي عنها و يقاس على هذا بقية الأحكام كلها من النفقة و حق السكنى لأجل ترويح نفس المرأة و دفع الاضطراب عنها في كافة المجالات.

یتبع بإذن الله...

 

[1] محمد عبدالله الزامل (1423ه)، التأصيل الإسلامي للضرورة للتغيير الاجتماعي، جامعة الملك سعود،كلية التربية ، بحث منشور في.

[2] محمدعزالدين توفيق(1998م )، التأصيل الإسلامي للدراسات النفسية، الطبعة الأولى، دارالسلام،.ص15.

[3] البقرة :222.

[4] خالد عبدالحمن العك(1422ه2001م)،واجبات المرأة المسلمة في ضوء القرآن و السنة،الطبعة الثالثة،دارالمعرفة، ،ص 131.

[5] آل عمران :195.

[6] سعيد رمضان البوطي (1416ه-1995م)،المرأة بين طغيان النظام الغربي و لطائف التشريع الرباني، دار ابن حزم، ص178.

[7] عابدة المؤيّد العظم (2000م) ،سنة التفاضل و ما فضل الله به النساء على الرجال،الطبعة الأولى ،بيروت: دار ابن حزم ، ص174.

[8] البقرة: 229.

[9] الطلاق: 1.

[10] متفق عليه البخاري، ج9، ص482، رقم 5332، ومسلم، ج2، ص1013، رقم 1471.