إن الإسلام يحرر العقل، وهذه بلا ريب نعمة عظيمة، كأنّ أول ما يميز الإنسان عن سائر الحيوانات: أنّ الله تعالى منحه العقل ليفكر به، ويتأمل فى نفسه وفى آيات الكون من حوله، ويتعلم ما يمكن تعلمه، بأدواته المختلفة من السمع والبصر والفؤاد، كما قال تعالى : {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [النحل:78]. وقال سبحانه: (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا) [الإسراء:36].
لذلك كان تحرير هذا العقل – الذى هو المنحة الكبرى للإنسان – من كل ألوان الأسْر والرقّ والحجْر عليه، والحجب له عن التفكير الحرّ، والتعلّم المستقل، والبحث الدؤوب، هو من أعظم ما دعَا إليه الإسلامُ فى كتابه وسنّة نبيّه، وفى أصوله الفكرية والدينية. تحرير العقل من أسْر الخرافات والأباطيل: دعا الإسلام إلى تحرير العقل من الأباطيل والخرافات التى يعتقدها الناس، وترسخ فى أذهانهم وأنفسهم، من غير أدلة تقوم عليها، وتستند إليها.
والإسلام يريد من المسلم ألا يُصدّق بكل ما يُقال له، إلا ما قام عليه برهان ساطع، لا يمكن التشكيك فيه، أو قام على أساس المشاهدة بالبصر بغير تخيّل، أو جاء به وحى إلهى، ثبتت صحته بالأدلة القاطعة. قال تعالى عن أهل الكتاب: (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ). [البقرة:111]. وقال للمشركين بصراحة: (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ) [الأنبياء:24] . وإذا اعتمد العقل الإنسانى على البرهان – ونعنى به البرهان القطعي- لا ما يدّعى البعض أنه برهان، فإذا اختبرته وجدته قائما على الوهم أو الظن، وقد قال تعالى معقِّبًا على موقف بعض الكافرين:
(وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِى مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا) [يونس:36]. وفى موضع آخر قال: (وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِى مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا)[النجم:28].
التحرير العقلى من أسر التقليد: كما جاء الإسلام بتحرير العقل من أسر التقليد الأعمى، بحيث يُلغى المرءُ عقلَه الذى آتاه الله إياه، ليستخدمه فى إحقاق الحق، وإبطال الباطل، وإثبات الوقائع، وتمييز الأمور بعضها من بعض، وإيجاد البدائل عند اللزوم، فجاء الإسلام بقرآنه العظيم، وبسنة نبيه الكريم، ليدعو العالمين أن يُعملوا عقولهم التى استودعهم الله إياها، فلم يُودِعهم إياها ليسجنوها، أو ليعطلوها، أو يضعوا فى طريقها عقبات ومعوّقات، بل ينبغى أن تفكر وتعمل بكل طاقتها، وبكل حريتها، وبكل ما آتاها الله من إمكانات. ومن المهم هنا: التحرر من تقليد الغير، أيا كان هذا الغير.
أ – التحرير من قيد اتباع الآباء: وأول التحرر من القيود التقليدية: قيد التحرر من اتباع الآباء والأجداد، فكثيرا ما وقف هذا الحاجز دون الاستماع والإنصات الحق إلى دعوات أنبياء الله تعالى ورسله، فيما جاؤوا به من البينات والهدى للناس. فكان هذا موقفهم من نبي الله هود{قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } [ هود : 70 ] وكان هذا منطقهم مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم : {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ } [المائدة:104]
ب- تحرير العقل من قيد السادة والكبراء: كما دعا الإسلام إلى تحرير العقل من قيود ضغط تقاليد الآباء والأجداد، دعا أيضا إلى تحرير العقل من اتباع السادة والكبراء، فالسيادة والكبرياء ليست معيارا للحق، كما أن الأبوّة بمراحلها المختلفة ليست معيارا للحق. ولكن العرب كغيرهم اتبعوا سادتهم وكبراءهم، واعتبروهم أولى بالحق من غيرهم، كما اعتبر الآخرون آباءهم أولى بالحق من سواهم. ومن المؤسف أن يظلَّ الناسُ وراءَ هذا الباطل الصُراح، الذى لا سَنَدَ له من منطق ولا علم، ولا هدًى ولا كتابٍ مُنير، إلى أن تنكشف الحقيقة، ويظهر وجهها علنًا للناس، فاضحا ما كانوا عليه من هذيان وتُرهات، اتّضح كذبُها، وبان زيفُها، وظهر انخداعُ الجميع بها.
انظر ما قاله القرآن بسرعة فى سورة البقرة: (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَ مَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ) [البقرة:166-167]. وتعرض لنا سورة سبأ مشهدا أوسع، يختصم فيه المشركون والضالون بعضُهم مع بعض، ولو كان معهم أسلحة لقَتَلَ بعضُهم بعضًا، ولكنهم يتقاتلون بالألسنة وبالكلمات، يقول تعالى: )
.. وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ* قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأَغْلالَ فِى أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ( [سبأ:31-33].
لقد خلع المستضعفون والفقراء عقولَهم، وتركوها لسادتهم وكبرائهم، فلم يغنوا عنهم شيئا، وتبرّؤوا منهم. كما تبرّأ الضعفاء منهم، كما حكى لنا القرآن فى هذه السورة (سبأ)،وفى سورة الأحزاب: ( وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا ) [الأحزاب:67-68]. ومازال القرآنُ وراءَ هؤلاء الفقراءِ والمستضعفين، يقوّيهم، ويرفع من شأنهم، ويُعلى من كرامتهم، ويُشعرهم أنهم ليسوا أقلَّ وزنا من هؤلاء المنتفخين بالباطل، المستكبرين بأموالهم وسلطانهم وأتباعهم، ولكن الإنسان لا يعلو إلا بنفسه هو، بما فى رأسه من عقل يفكّر، وما فى صدره من قلب يخْفِق، وما فى جوانحه من مشاعر صادقة، لا تزييف فيها ولا مراءاة. ج- تحرير العقل من سلطان الأساتذة والشيوخ: كما حرّر القرآن العقل من سلطان الآباء وسلطان الكبراء، حرّره كذلك من سلطان الأساتذة والشيوخ، الذين استعبدوا عقله، وجعلوه ذيلا لهم، يفكّر بتفكيرهم، ويتكلم إذا نطقوا، ويصمت إذا سكتوا، ويؤمن إذا آمنوا، ويكفر إذا كفروا.
إن شيخَ الإنسانِ ومعلمَه يجب أن يكون بمثابة حامل المصباح، عندما يُظلم الطريقُ عليه يُخرج له مصباحه، ويضيئه له، لينير الطريق، فيعرف يمينه من شماله، وأمامه من خلفه، ويسير على هدًى، وليس مهمة الشيخ والمعلم أن يحمل التلميذ على كتفه ، ويمشى به حيث يريد هو، فليست هذه أستاذيّة، ولا هذه تلمذة. لقد اعترض القرآن على الذين غلَوْا كل الغلو حينما جعلوا شيوخهم كأنهم أنبياء يوحى إليهم من الله، وهم ليسوا كذلك. إنهم بشر يصيبون ويُخطئون، ولأجل هؤلاء ذم الله أهل الكتاب، وما اعتقدوه فى شيوخهم وأحبارهم، فقال تعالى:
{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [التوبة:31].
وقد كان عدى بن حاتم الطائى –العربى السَّرى، المشتهر بالجود والسخاء- ممن تنصروا فى الجاهلية، وقد دخل على الرسول، وهو يقرأ سورة التوبة، وجاء إلى هذه الآية التى تتحدث عن الأحبار والرهبان، فقال: يا رسول الله إنهم لم يعبدوهم! فقال صلى الله عليه وسلم : [ ألم يحرّموا عليهم الحلال، ويحلوا لهم الحرام، فأطاعوهم؟ فتلك عبادتهم إياهم] . د- تحرير العقل من اتباع العامة: وأخيرا يسعى الإسلام بقرآنه وسنة نبيه، وبكل تعاليمه وتوجيهاته، إلى تكملة تحرير العقل البشرى من كل ما هو مُسلط عليه، ومعطل له عن الإنتاج النافع، وهنا يحرره نهائيا من سلطان اتباع الجماهير الغافلة، من عامة الناس، الذين كثيرا ما يسيرون وراء الآباء، أو وراء الكبراء، أو وراء الأساتذة والشيوخ، الذين اعتبروا أنهم يفكرون لهم، وأنهم كأنما أعطَوْا عقولَهم إجازة طويلة، ليس عليهم فيها أن يفكروا، ولا أن يناقشوا، ولا أن يسألوا، ولا أن يُضيئوا هذه الشمعة وقتا ما ليستفيدوا من نورها.
فمن العجب العجاب، أن ترى بعض الناس فى مجتمعاتنا تغلق عقولها، ولا تسمح لها بأن تنفتح يوما للعمل والتفكير؛ لأنه قد أراح نفسه من ذلك، حيث قد حدد موقفه مقدما تحديدا دقيقا صارما، وهو: أن يكون مع الناس، مع الأكثرية، إن قالوا فى أمر: نعم، قال: ( نعم ). وإن قالوا فى أمر: لا. قال بكل بساطة: ( لا ). أما هو – كإنسان له عقله وفكره وثقافته ودينه ورسالته – فليس له فى الحقيقة موقف. وهذا أمر مؤسف حقا: أن يتنازل الناس عن تفكيرهم، وعن شخصيتهم، وعن مسؤوليتهم، مع أن كل إنسان مسؤول عن نفسه، ليس أحد مسؤولا عنه: ) كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ( [المدثر:38].
وهذا ما حذر منه نبى الإسلام محمد عليه الصلاة والسلام، فقال: [ لا تكونوا إمعة، تقولون: إن أحسن الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطِّنوا أنفسكم، إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا فلا تظلموا] الترمذي وتقوم دعوة الإسلام، وتربية الإسلام، وتشريع الإسلام، على أن يعيش الناس كما خلقهم الله، بعقولهم، ومواهبهم وضمائرهم، فقد أنزل الله كتابه، وبعث رسله، وخلق كونه، ومنح قوانينه، لـ (قوم يعقلون )، ولـ (أولى الألباب ).
الآراء