(1)

تعرضت الأمة في مطلع القرن الماضي لهزات عنيفة هددت هويتها في خصوصياتها الثقافية ومنظومتها القيمية، من خلال موجات التغريب العاتية المدعومة بقوة باطشة وبكل مظاهر الإغواء والإغراء، في الوقت نفسه كان التضييق والملاحقة نصيب العلماء العاملين! فقد أتى على الإسلام والمسلمين حين من الدهر توالت فيه الحوادث، وتتابعت الكوارث، وعمل خصوم الإسلام على إطفاء روائه، وإخفاء بهائه، وتضليل أبنائه، وتعطيل حدوده، وإضعاف جنوده، وتحريف تعاليمه وأحكامه؛ تارة بالنقص منها، وأخرى بالزيادة فيها، وثالثة بتأويلها على غير وجهها. وساعدهم على ذلك ضياع سلطة الإسلام السياسية. هذا ما وصف به الإمام البَنّا (رحمه الله) في مجموع الرسائل الحال الذي تتعرض إليه الأمة.

(2)

وكان لهذا الفكر المشبوه الدخيل ضحايا انخدعوا بالمزخرف من القول، فانعكس ذلك على واقع الحياة العلمية، حتى غدت بعض الجامعات العصرية معاقل موبوءة بهذه الأفكار، تقذف في نفوس أبنائها الشك والإلحاد، وتعلمهم كيف ينتقصون أنفسهم، ويحتقرون دينهم ووطنهم، وينسلخون من تقاليدهم وعقائدهم، ويقدسون كل ما هو غربي، ويؤمنون بأن ما يصدر عن الأوروبيين وحده هو المثل الأعلى في هذه الحياة. وهكذا أصبحت الجامعات حاضنة للأفكار المشككة بالإسلام كدين ناظم للحياة، والتقريع بمقومات الأمة، والسعي الحثيث لتقويضها.

وقد كان صوت التغريب على ألسنتهم يبشر بأن الخلاص لن يتحقق إلا عبر تبني المشروع الحضاري الغربي، بخيره وشره، بحلوه ومره، بما يحب فيه وما يكره، وبما يحمد فيه وما يعاب! فما أقدم عليه طه حسين من خلال نشره لكتابه (في الشعر الجاهلي) الذي استخدم فيه نهج (الشك الديكارتي) للتشكيك في الشعر الجاهلي ثم تجاوز نطاق (الشعر الجاهلي) بالتشكيك في عقائد قرآنية يقينية الدلالة كما هي يقينية الثبوت.

مثل.. قصة الخليل إبراهيم عليه السلام ورحلته الحجازية، فكان هذا الكتاب يمثل اقتحام التغريب لمقدسات المسلمين واستفزاز (النزعة المادية) للحضارة الغربية مشاعر المسلمين! ولم يتوقف الأمر عند ذلك، بل تواصل الاستفزاز ومعول الهدم قاصداً إلغاء أي مظهر لمكونات الأمة؛ فاستهدفت اللغة العربية لإلغاء أي رابط يربط بين أبناء الأمة.

فقال في كتابه مستقبل الثقافة في مصر: إن اللغة العربية ليست لغة النهضة والتقدم، فلا تصلح لعصر الديمقراطية والبرلمانات، وأضاف: لا بد لنا أن نسير سيرة أوروبا في الحكم والإدارة والتشريع! فهذه جملة من ادعاءات لا تستند إلى واقع أو برهان، ولا تقوم على أيٍ من ضوابط المعرفة المقررة، غير أنها الحرب المسعورة؛ لتفتيت وَحْدة الأمة الإسلامية بتقويض مقوماتها.

(3)

ولكن اتجاه هذا الضعف والتهتك الذي ضرب الأمة في أخص خصوصياتها، وفي أعز ما تملك، وفي أشد حصونها مناعة ألا وهو عقيدتها، برزت القوى الكامنة المذخورة في الأمة، التي غالباً لا تظهر إلاَّ عندما تُصْدَم الأمة في ثوابتها وقيمها الحضارية؛ فتكون قدر الله! فكان التجديد الإسلامي في حضارتنا دعوة للعودة إلى المنابع الجوهرية والنقية المقدسة والمعصومة والثابتة والملزمة للمسلمين. في ذلك بين الإمام البَنّا (رحمه الله) الرسائل بقوله:

«إن أساس التعاليم الإسلامية معينها هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، اللذان إن تمسكت بهما فلن تضل أبداً، وإن كثيراً من الآراء والعلوم التي اتصلت بالإسلام، وتلونت بلونه تحمل لون العصور التي أوجدتها والشعوب التي عاصرتها؛ ولهذا يجب أن تستقي النظم الإسلامية التي تحمل عليها الأمة من هذا المعين الصافي، ولا نلزم عصرنا لون عصر لا يتفق معه، والإسلام دين البشرية جميعاً».

وبهذه العقلية المبدعة والذهنية المتفتحة وضع نظريته؛ للاستفادة من كنوز التراث الفكري، بعد عرضه على معايير القرآن الكريم وصحيح السنة، ومع فقه الواقع المعيشي حتى نجيب على علامات استفهامه بألسنة الأحياء، لا بفتاوى الأموات!

(4)

وقد لقِيَ هذا الطرح التجديدي تجاوب النفوس المؤمنة التي أعياها الهبوط والسفور والغربة عن الدين وغربة الدين عن الدنيا، وشكل حالة من التفاعل الإيجابي مع المستجدات التي تعرض للأمة، وطرح إجابات واعية منفتحة للتساؤلات الملحة؛ لمواجه تلك الموجة العاتية من التغريب المدعوم بكل أدوات التزييف والجبروت.

وكان فرع دار العلوم- يتبع جامعة الأزهر الشريف- التي وصف الإمام البَنّا (رحمه الله)- في مذكراته- الحياة العلمية، فقال: «لم تكن الدراسة في دار العلوم حينذاك دراسة جامدة، فكثيراً ما كنا نتناول بين حجرات الدراسة كثيراً من الشئون العامة في السياسة والاجتماع، وكانت هناك كذلك آراء دينية يختلف فيها الطلاب مع الأساتذة، وتكون موضع الحديث والنقاش والجدل في حرية تامة وأدب كامل».

فدار العلوم عَمَرَها خِيرة الشيوخ المخلصين، وفيها تبلور عند الإمام البَنّا (رحمه الله) الفكر الدعوي المنهجي الذي تجلى يوم ميلاد جماعة الإخوان المسلمين.. في الإسماعيلية وضعت أول نواة تكوينية للفكرة، وظهرت أول هيئة متواضعة نعمل ونحمل لواءها نعاهد الله على الجندية التامة في سبيلها تحت اسم (الإخوان المسلمون). والتي كانت وقبل كل شيء ثورة على كل مظاهر الفسق والتحلل، فهي بحق ميلاد جديد للحركة الإسلامية، وتجديد كامل للإسلام؛ لتكون الحركة التي عملت على إحياء الإسلام كله في نفوس أبنائه.

(5)

وقد وجدت قبل هذه الحركة حركات إسلامية محلية، أو حركات إسلامية تلتزم التذكير ببعض معان في الإسلام، وولدت هذه الحركة إسلامية شاملة عالمية بهذا وصف الشيخ سعيد حوَّى ميلاد الإخوان في كتابه الفقهين الكبير والأكبر.. مع قلتهم وضعف عدتهم المادية، ولكنها سنة الله أن تبقى الفئة القليلة ثابتة يحدوها الأمل بالله، والثقة بنصره؛ فلم تنزو هاربة، أو تقع غارقة أمام تلك الحالة المتردية!