عَليهم أن لا ينخدعوا بالمنطق المُعلن، لأن الديبلوماسية من مهاراتها الفائقة أن تُضفي على المصالح الحقيقية غطاء القيم والمبادىء، وعَليهم أن يُدركوا أيضاً أن العلاقات بين الدول هي صراعات بين المصالح، والجانب الخيري فيها قليل، ونادر، ورهن الظروف.. هذا ما كتبه الشاذلي القُليبي أمين عام جامعة الدول العربية (1979-1990) في تقديمه لكتاب “العلاقات الدولية” للمؤلف د. ريمون حدّاد سفير جامعة الدول العربية السابق في مدينة بون الألمانية. وهذا ما سننطلق منه في طرح آراء المُنظرّين في العلاقات الدولية في إشكالية العلاقة: بين المصالح السياسية وما ينتج عنها من حروب، وبين الأخلاق التي تتذرع بها الدول أمام الشعوب. في البداية، لا بُدّ من التمييز أنه عندما نتحدّث عن المصالح في العلاقات الدولية فإننا لا نقصد بذلك العلاقات السياسية وإنما تشتمل تلك العلاقات على المصالح الإقتصادية والإجتماعية والثقافية. وأننا عندما نتناول الأخلاق في العلاقات الدولية فإن النسبية هنا هي المعيار المُتّبع في تحديد ما هو أخلاقي وما هو غير أخلاقي.

مكيافللي: أسلوب الإنسان – الحيوان

فما هي إذن حقيقة العلاقة بين المصالح في العلاقات الدولية والأخلاق العامة؟ يرى “مكيافللي” في كتابه “الأمير” سنة 1515م أن على الحاكم استخدام أسلوبين: أسلوب الإنسان وأسلوب الحيوان.. إذ أن الحاكم عليه أن يتظاهر بأنه يتحلّى بالصفات المحمودة وأن يبدو رحيماً ومؤمناً وأميناً وإنساناً وديّناً، لكنه في الوقت نفسه عليه أن يلبس ثوب الثعلب الماكر وأن يكون مستعداً وقادراً على فعل الشرّ إذا ما اضطر لذلك، وأن ينكث وعده ليحمي مصلحته. ولهذا اعتبر الفلاسفة أن المدرسة الميكافللية هي مدرسة لا تحترم الأخلاق وهي قائمة فقط على المكر والقوّة والصراعات بين المصالح، وأن هذا الأخير هو من وضع أُسس الدولة الحديثة البعيدة في مصالحها عن مفهوم الأخلاق.

دو فيتوريا: الحرب واجب إنساني

مُنظّر إسباني يُدعى “فرنسيسكو دو فيتوريا” (1490-1546م) رأى في هذه المسألة أن الحرب هي واجب إنساني وهي وسيلة لفرض احترام الأخلاق والقانون، وأن المُستعمر غايته تحقيق المصلحة الكونية في الدفاع عن حقّ عالمي وهو الإنفتاح بين البشر، إذ لا يمكن لأي مجتمع أن ينغلق على نفسه، مؤيدا بذلك حق الأفراد في التحرك والإقامة حيث يشاؤون على اعتبار أن الأرض هي ملكية مشتركة لكل الناس.. نظرية دو فيتوريا جاءت للدفاع عن سياسة الإستعمار الإسبانية آنذاك وهذا ما يُمكن أن نلتمسه اليوم في لغة المستعمرون الجدد عند رفعهم لواء تحرير الشعوب.

غروتيوس: حق البقاء

“غروتيوس” (1583- 1645م) لم يبتعد كثيراً عن “دو فيتوريا”، فـغروتيوس مؤلف كتاب “قانون الحرب والسلم” يعترف بشرعية اللجوء إلى الحرب العادلة للدفاع عن الحقوق الأساسية: حق المساواة، حق الإستقلال، حق البقاء، وإقامة المبادلات الخارجية.. وهذا ما يتذرع به مجلس الأمن الدولي اليوم في كثير من قراراته المُلزمة والمجحفة بحق الشعوب كما حصل في الغزو الأميركي للعراق، وحقّ البقاء وتهديد الوجود الذي يتذرع به الكيان الإسرائيلي.

هوبس: العنف فضيلة

ومن منطلق “المحافظة على الذات” كتب الفيلسوف البريطاني هوبس (1679- 1588م) نظريته في العلاقات بين الدول على أساس المصالح، مستنداً إلى المادية الميكانيكية أو بالمعنى الأبسط إلى قاعدة التصرف الإنساني الأولى وهي المحافظة على النفس، معتبراً أن القوانين الطبيعية: كالعدالة، والتواضع، والرحمة، والخير هي قوانين تتعارض مع العواطف الطبيعية للإنسان من غرائز وتحيّز وعجرفة وثأر، مُستنتجاً أن العلاقات بين الدول لا ترتكز على مفاهيم الشرعية واللاشرعية، العدالة واللاعدالة، وأن العنف والحيلة يُصبحان من الفضائل في أوقات الحروب، وأن الوضع الطبيعي في العلاقات الدولية ما هو إلا تتمة لشريعة الغاب.

كونت: الحرب وظيفة تعليمية

“إيمانويل كونت” (1804-1724م) – الملقّب بالفيلسوف المثالي- خالف نظرية هوبس، واعتبر أن الحروب تندلع فقط عندما لا يتوصل الناس إلى تحقيق مجتمع مدني قائم على الأهداف الأخلاقية، وأن وظيفة الحرب هي وظيفة تعليمية، وأن الناس عليهم أن يقتنعوا بضرورة إقامة مجتمع مدني عالمي شامل بعد وقوع أي حرب وذلك بغية تجنب وقوع حرب جديدة. وفي كتابه ” مشروع سلام دائم” عام 1795م اقترح كانتْ تشكيل عصبة أو شركة أُمم تمنح نفسها نظاماً فدرالياً على هيئة “الجمهورية العالمية” تحكمها قوانين عالمية ودستور عالمي لإقامة مجتمع سلمي عالمي حُرّ يختار الناس فيه العيش بسلام على أساس تنظيم المصالح.

أُمم مُتمدّنة

حتى أواخر القرن التاسع عشر كان مُنظري العلاقات الدولية وواضعي القانون الدولي وما يتضمنه من أخلاقيات، يُقسمون شعوب العالم إلى 3 فئات: متحضرة، غير متحضرة، بربرية أو متوحشة، كما ورد في كتب الفيلسوف لوريمور سنة 1884 وكما كتب فون ليسزت سنة 1898م.

ولم تكن تُطبق آنذاك قواعد القانون الدولي من حُرية وحقوق إنسان وعدالة وأخلاق إلا على الشعوب المتحضرة، بينما كانت الشعوب “غير المتحضرة” خارج المعادلة وكان يتم التعامل معها ضمن إتفاقيات خاصة، أما الشعوب البربرية فكان بإمكان الدول المتحضرة أن تتصرّف معها كيفما تشاء. وحتى اليوم ما يزال النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية يتضمن عبارة “أُمم مُتمدّنة” في المادة 38 (البند ج) والتي نصت على:”مبادئ القانون العامة التي أقرتها الأُمم المتمدنة”.

إن العلاقات الدولية تحكمها المصالح السياسية والتحالفات الإستراتيجية ولا تحكمها الأخلاق بالمُطلق كما يُروّج لنا اليوم، فالأخلاق والقيم هي غطاء لمصالح إقتصادية وثقافية واصطفافات عسكرية بإسم الله والشريعة وما تجدد النزاعات الطائفية الدامية إلا دليل على ذلك.. فهل قتل المُسلمين بعضهم لبعض من الأخلاق ومن فعل الخير أم أن هذا هو الطريق المُستقيم لأمّة مُتمدّنة؟