لم تكن الأحداث التي انطلقت في مدينة مشهد الإيرانية يوم الخميس الماضي (28 ديسمبر/كانون الأول) يتيمة ، بل سبقها امتعاض شعبي -خلال الأشهر الماضية- سواء تعلق بأداء الحكومة في أحداث الزلزال الذي ضرب غربي البلاد في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أو جاء ضمن احتجاجات أصحاب الودائع المفقودة في بنوك ومؤسسات اقتصادية إيرانية.
كانت البداية في مشهد الإمام الرضا حيث رفع المتظاهرون شعارات ذات طابع اقتصادي موجهة ضد حكومة الرئيس حسن روحاني وسياساتها الاقتصادية، رافعين هتافات ضد الرئيس وضد الغلاء المعيشي.
ثم سرعان ما انتقلت عدوى المظاهرات إلى العاصمة طهران ومدن إيرانية أخرى، كما تغيرت بسرعة نوعية الشعارات من مطالب اقتصادية إلى هتافات سياسية، وتباينت المظاهرات بين السلمية وممارسة الشغب والتخريب بمهاجمة مقرات حكومية وممتلكات عامة.
تختلف هذه الاحتجاجات عن تلك التي واكبت نتائج انتخابات الرئاسة عام 2009 (الحركة الخضراء)، حيث اقتصرت تلك حينها على العاصمة طهران بشكل كبير، وكانت تحت قيادة واضحة من التيار الإصلاحي الذي آل الأمر ببعض رموزه إلى الإقامة الجبرية، بعد أن نعتَهم النظامُ بأنهم أصحاب فتنة. أما المظاهرات الحالية فهي لا تحظى بأي نوع من القيادة الأيديولوجية أو السياسية، بل هي حركة من عامة الناس بلا رأس، ورغم طابعها الاقتصادي -في بادي الأمر- فإنها لم يعد لها مضمون مشترك، بل تباينت وتعددت مواضيعها وهتافاتها.
روايات متباينة
هناك تباين في رواية الحدث بين التيارين الرئيسييْن في إيران: الإصلاحي والمحافظ، يأتي في سياق المناكفات السياسية بينهما. الرواية الأولى يتبناها التيار المحافظ الذي يوجّه أصابع الاتهام إلى السياسات الاقتصادية للرئيس روحاني التي يصفها بالفاشلة. وعليه، فقد عزت شخصيات هذا التيار الاحتجاجات إلى هذه السياسات التي قالت إنها أدت إلى غلاء المعيشة ومعضلات اقتصادية. وفي هذا السياق، أكد رئيس مجلس صيانة الدستور أن أعمال العنف والاضطرابات تعدّ منكرات، أوجدها عدم معاجلة المنكرات الاقتصادية كالغلاء مما أدى إلى استياء شعبي، حسب قوله. الرواية الثانية تتهم خصوم الحكومة بالسعي إلى تصفية حسابات انتخابية سابقة مع التيار الإصلاحي، وفتح حسابات أخرى مستقبلية بإشعال المظاهرات في مشهد، والتي وصفها الناشط الإصلاحي البارز حميد رضا جلائي بور بـ"المزحة السيئة".
واليوم -من وجهة نظر المحافظين- أخفقت الحكومة في كل الملفات، سواء في رفع الحصار عن البلاد أو في تحقيق التحسن الاقتصادي الموعود به سابقا في الحملات الانتخابية. وفي هذا الصدد، حذّر إسحق جهانغيري (النائب الأول لرئيس الجمهورية) من أن مَنْ يحاول أن يبدأ هذه المظاهرات لن يملك نهاياتها، ووجّه الاتهامَ إلى التيار المحافظ -دون تسميته- في إشعال المظاهرات التي بدأت في مشهد معقل المرشح الرئاسي السابق إبراهيم رئيسي. ويكاد بعض المحللين يتهم العالم الديني علم الهدى بالوقوف وراء هذه المظاهرات، ويُذكر أن رئيسي هو صهر علم الهدى الذي نفى مكتبه رسمياً مثل هذه التهم.
يعترف أصحاب هذه القراءة بأن هناك معضلا اقتصاديا يجب العمل الجاد على معالجته، لكنهم -في نفس الوقت- لا يرون أن الاقتصاد هو المحرك الأساسي لهذه المظاهرات. وهذا ما أكده الرئيس روحاني الاثنين الماضي حين لمّح إلى أسباب أخرى، بقوله إن الناس لم يخرجوا إلى الشوارع لأسباب اقتصادية فحسب، بل إن أحد مطالبهم هو أن يتحقق لهم انفتاح أكبر. وبهذا حاول أن يرمي الكرة في ملعب خصومه المحافظين.
أسباب منوعة
اليوم وبعد نهاية الأسبوع الأول تقريباً من المظاهرات؛ اتفق أصحاب الروايتين على اتهام جهات أجنبية بحرف مسار مطالبات الشارع إلى مطالبات تصعيدية وغير سلمية.
أما الأسباب التي أدت إلى هذه المظاهرات فيمكن إدراجها تحت العناوين الرئيسية التالية:
1ـ السبب الاقتصادي: لا شك أن للأوضاع الاقتصادية الدور الأكبر في هذه الاحتجاجات، فإن الاقتصاد هو نبض الشارع الإيراني وخاصة الطبقة العمالية التي لا تلمس تحسنا في واقعها المعيشي، والشباب الباحثين عن العمل الذين لا يجدون فرص عمل كثيرة أمامهم، ولذلك فإن العمال والشباب هم أكثر الناس مشاركة في المظاهرات. وما زاد من قلق كثيرين هو الموازنة المقدمة من الرئيس روحاني إلى البرلمان الإيراني، والتي سيتم بموجبها رفع أسعار سلع أساسية مثل البنزين، وإلغاء الدعم النقدي المقدم لشرائح في المجتمع بدءا من العام الإيراني الجديد. كما أن روحاني بعد ربطه تحسن الأمور بالاتفاق النوويعام 2015، ورفعه سقف توقعات الناس من مكاسب الاتفاق الاقتصادية؛ لم يتمكن من تنفيذ وعوده الانتخابية بعد إعادة انتخابه مجددا، وهو ما أصاب المواطنين بحالة إحباط لشعورهم بتراجع الوضع الاقتصادي، وذلك على عكس الأرقام التي تسوقها الحكومة.
2ـ التحول الفكري: فقد تغيرت بنيوياً منظومة التفكير لدى شرائح عديدة من المجتمع الإيراني. وهذا التحول ليس وليد اللحظة، بل هو نتيجة اجتماع عدة عوامل سياسية واقتصادية وثقافية ودينية واجتماعية، أدت إلى شروخ طبقية وثقافية وقومية واجتماعية. وهذا التحول أدى إلى نشوء قناعات وأولويات مغايرة لتلك التي تؤمن بها القوى السياسية في البلد إصلاحية كانت أو محافظة. وعليه، فقد رُفعت في هذه المظاهرات شعارات ذات طابع عابر للحدود وتمس السياسة الخارجية، مثل شعارات: "لا غزة ولا لبنان.. روحي فدا إيران"، و"اترك سوريا وفكر في حالنا". هذه الشعارات -التي تمثل ردة فعل غاضبة على السياسات الداخلية بالدرجة الأولى- تعزوها جهات سياسية ورسمية إلى من تصفهم بالعناصر المندسة في الاحتجاجات سواء في 2009 أو في 2017. كما أنه لا يمكن تجاهل أن هناك من لديه موقف من الثورة أساسا حاولوا تصدّر المشهد، ومنهم أنصار المَلَكية الذين رفعوا شعارات مثيرة طالبت بعودة الملكية التي أطاح بها الشعب فيالثورة الإيرانية عام 1979.
3ـ التدخل الخارجي: أحداث اليوم في إيران لها جذور وأسباب داخلية بامتياز، ودور التدخلات الخارجية يأتي في سياق استغلالي وتحريضي، أي استغلال الثغرات الداخلية الموجودة والعمل عليها وتكبير المشاكل، وتحريض الإيرانيين على النظام، واستمرار المظاهرات عبر المواقف والتصريحات الداعمة للمتظاهرين. وبالطبع لا يخلو الأمر من وجود عناصر بين المتظاهرين يسعون إلى صبغ المظاهرات بطابع العنف وإبقائها مشتعلة بوسائل غير سلمية. ولا بد هنا من استحضار تصريحات المسؤولين السعوديين، وعلى رأسهم ولي العهد محمد بن سلمان الذي هدد سابقا بنقل المعركة إلى داخل إيران، وكذلك مواقف الرئيس الأميركي دونالد ترمب من طهران وتصريحاته التحريضية أثناء الأحداث وقبلها. ومن الضروري كذلك الإشارة إلى أن تغريدات ترمب "الداعمة" للمتظاهرين لم تلق قبولا واستحسانا لدى الإيرانيين، لأن أحد أسباب تردي الأوضاع الاقتصادية يعود إلى العقوبات الأميركية المفروضة على بلادهم منذ أربعة عقود.
4- خدمة تلغرام: أو إن صح التعبير "حزب تلغرام" الافتراضي، فهذه الخدمة تعتبر الأكثر انتشارا بين شبكات التواصل الاجتماعي في إيران التي كان لها دور كبير في قيادة المظاهرات وتوسيع نطاقها، إذ يبلغ عدد أعضاء هذه الشبكة في إيران أكثر من أربعين مليون شخص، وبعض قنواتها يصل عدد أعضائها إلى أكثر من مليونيْ شخص. ويتم يومياً تداول الملايين من الرسائل في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأدبية، عبر تطبيق تلغرام الذي ساهم بشكل كبير في صناعة وعي وفكر جمعي جديد لدى الإيرانيين.
لقد عمّقت هذه الخدمة -وغيرها من وسائل التواصل الاجتماعي- الشرخَ الحاصل، وذلك بالتركيز على السياسات الإيرانية داخلياً وخارجياً، وبالذات مواطن الضعف والسلبيات مثل عمليات الفساد الكبيرة خلال، وإبراز حالات الفقر في مختلف المناطق الإيرانية وكذلك البذخ والإسراف، بالنص والصورة والفيديو. وأصبحت هذه الخدمة تنشر خرائط ميادين المظاهرات وتوجِّه الناسَ إلى التجمهر بها في ساعات محددة. خلال السنوات الماضية، حاولت جهات إقناع الحكومة بحجب خدمة التلغرام، لكن الرئيس روحاني أعلن -في أكثر من مناسبة- أنه يعارض هذا التوجه، ولن يسمح بإغلاق الشبكات التواصلية. ومع ذلك فقد حجبت الحكومة تغلرام في اليوم الرابع من الاحتجاجات، إلا أن مستخدميه لجؤوا إلى برامج فك التشفير مما جعل الحجب بلا جدوى إلى حد كبير.
مآلات الأحداث
هناك سيناريوهان محتملان لهذه الاحتجاجات هما: سيناريو التوقف وسيناريو الاستمرار. فبالنسبة لسيناريو التوقف؛ فإنه تقويه عوامل من بينها:
أولا: أن استشراء مظاهر العنف والتخريب ومهاجمة الممتلكات العامة يثير قلق غالبية الشعب الإيراني من تكرار سيناريوهات كارثية في إيران، كتلك التي حدثت في دول عربية وعلى رأسها السيناريو السوري. فاستمرار العنف في المظاهرات يجعل تلك التجارب المريرة حاضرة أمام الإيرانيين، ويدفع الكثيرين منهم للتراجع عن المشاركة فيها بعد تحولها من السلمية إلى العنف. وهذا سبب رئيسي في انحسار الاحتجاجات.
ثانيا: أن الاحتجاجات تفتقر إلى مقومات تقدم لها الدينامية والاستمرار على مدى زمني طويل، فهي تعاني من عدم وجود قيادة لها، وفقدان دعم القواعد الجماهيرية التابعة للتيارات السياسية، وفي مقدمتها جماهير الإصلاحيين. فانعدام الرأس -بقدر ما يشكل خطرا- يصعّب على السلطات التعامل مع الحدث، ويشكل أيضا تهديدا للاحتجاجات نفسها.
ثالثا: تراجع نسبة المشاركة في المظاهرات التي لم تكن حالة شعبية عارمة، عكس ما يتم تصويره والترويج له في الخارج، ورغم أنها بدأت في مشهد -التي هي إحدى كبريات المدن الإيرانية- فإنها تراجعت اليوم إلى مدن صغيرة. رابعا: التدخل الخارجي -وبالذات الأميركي- لم يأت لصالح المحتجين، بل زاد حساسية السلطات وعزمها على مواجهة الحدث، ثم إنه أثار قلق كثير من الإيرانيين من وجود مخططات خارجية.
أما سيناريو الاستمرار، فإن توقف الاحتجاجات -إن حصل- سيكون بسبب العوامل السابقة، وليس لانتفاء الأسباب التي أشعلت الاحتجاجات أصلا. ومع أن النار بدأت تخمد شيئا فشيئا حاليا إلا أنها -على الأغلب- لن تنطفئ، وإطفاؤها نهائياً بحاجة إلى معالجة حكيمة وجذرية لأسباب اندلاعها، وإلى قرارات جرئية لا تكتفي بمعالجة العامل الاقتصادي فحسب، بل تلتفت إلى العوامل الأخرى السياسية والاجتماعية وغير ذلك. وعموما، فإنه إن لم تكن هناك عملية معالجة شاملة لجميع أسباب المشكلة، فإن النهاية الحاسمة في كلا الاتجاهين غير واردة، والأرجح أن تبقى عوامل الأزمة كامنةً بحيث يمكن تحريكها في أية ظروف قادمة، وهو ما قد يؤدي مستقبلا إلى حالات متقطعة ومتصاعدة من الاحتجاجات.
الآراء