ما أسهل أن يتعايش الإنسان مع روحه وتوأمه، مع من يوافقه في أفكاره وتصوراته ورؤاه، فالأرواح جنود مجندة ما تعارف منها اتفق، وما تناكر منها اختلف كما جاء في الحديث. لكن الإنسان لا يمكنه أن ينعزل مع من يساوقه الفكر بعيدا عن المختلفين معه، فضلا عن أن ذلك ليس من منهج الإسلام، فكيف يتمكن الإنسان من التعامل مع المختلفين معه؟ كيف يمكنه أن يتعايش معهم حتى لو لم يتغيروا! لقد اهتم القرآن بذكر ملامح منهج التعامل مع المختلفين، شأنه مع القضايا الأساسية في الحياة، فمما ذكره القرآن في ذلك :

1- التأكيد على أن الاختلاف باق:

ليس بإمكان أحد أن يرفعه، مهما أوتي من سلطان الحجة، أو قوة السلاح، قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} [هود: 118].

فسيبقى في البشر الطيب والخبيث، والبر والفاجر، والمؤمن والكافر، والقوي والضعيف، والعالم والجاهل، والأمين والخائن، واللطيف والقاسي.. فمن كان يطمع في جعل الناس كلهم نسخا كربونية، فالقرآن يخبره أن طمعه في غير مطمع. يخبره القرآن أن الله خلق الناس مختلفين، فكل إنسان له شخصيته المستقلة، وتفكيره المتميز، وطابعه المتفرد، يبدو ذلك في مظهره المادي، كما في مخبره المعنوي، فكما ينفرد كل إنسان بصورة وجهه، ونبره صوته و(بصمة) بنانه، ينفرد كذلك بلون تفكيره وميوله وذوقه، ونظرته إلى الأشياء والأشخاص والمواقف والأعمال.

وهكذا فقد حرص القرآن على تطبيع ثقافة قبول الاختلاف، فالاختلاف أمر طبيعي، ومن الطبيعي أن تتطبع على ذلك، وإلا كنت مخالفا للفطرة التي فطر الله الناس عليها. وتجد ذلك المعنى في غير آية من كتاب الله، من ذلك: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [الأنعام: 35].

وفي ذلك يقول صاحب الظلال: لو شاء الله لخلق الناس كلهم على نسق واحد، وباستعداد واحد.. نسخاً مكرورة لا تفاوت بينها ولا تنويع فيها. وهذه ليست طبيعة هذه الحياة المقدرة على هذه الأرض. وليست طبيعة هذا المخلوق البشري الذي استخلفه الله في الأرض. ولقد شاء الله أن تتنوع استعدادات هذا المخلوق واتجاهاته. وأن يوهب القدرة على حرية الاتجاه. وأن يختار هو طريقه، ويحمل تبعة الاختيار. ويجازى على اختياره للهدى أو للضلال.. هكذا اقتضت سنة الله وجرت مشيئته. فالذي يختار الهدى كالذي يختار الضلال سواء في أنه تصرف حسب سنة الله في خلقه، ووفق مشيئته في أن يكون لهذا المخلوق أن يختار، وأن يلقى جزاء منهجه الذي اختار.

2- الإنصاف والتجرد في الحكم على الأفكار والأشخاص:

نعى القرآن على المختلفين أن يجرد بعضهم بعضا من الحق والصواب، وأن يخلع بعضهم على بعض نعوت الضلال، وصفات الخبال، فلا ينبغي للإنسان أن يحكم على شيء إلا بعد البحث والتحري ومعرفة موضع الخطأ، والفرز بينه وبين ما عساه يكون معه صوابا. فلا يؤخذ مذهب المخالف جملة، بل يُنظر إليه مفصلا، فما كان من حق قيل : إنه حق، وما كان من باطل، قيل : إنه باطل! نجد ذلك في قوله تعالى:

{وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [البقرة: 113].

فسياق الآيات موجه لإنكار حكم كل من الفريقين على الآخر من غير بينة ولا برهان ولا فصل ولا فرقان. فهي تنكر على اليهود حكمهم على النصارى أنهم ليسوا على شيء مع أن أصل دينهم حق، ثم طرأت عليه نزعات الوثنية والبدع، وعرض له التحريف والتأويل، فتجريده من كل حق حكم مخالف لما أراد القرآن تقريره من إنصاف وتجرد في الحكم على المخالفين.

وهي كذلك تنكر على النصارى حكمهم على اليهود أنهم ليسوا على شيء، مع أن أصل دينهم حق، ثم طرأ عليه ما طرأ على النصارى من نزعات الوثنية والبدع، وعرض له التحريف والتأويل، فتجريده من كل حق حكم مخالف لما أراد القرآن تقريره من إنصاف وتجرد في الحكم على المخالفين! وليت الفريقين لا يعلمون عن بعضهم البعض ما هم عليه من الحق، لو أنهم لا يعلمون لهان الأمر، لكن الواقع أنهم يعلمون، فكتاب اليهود أصل لكتاب النصارى، وكتاب النصارى متمم لكتاب اليهود.

وقد أكد القرآن هذا المنهج في حكمه على الآخرين من غير المسلمين، قال تعالى:

{لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 113، 114].

وتجد ذلك أيضا في مثل قوله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} [آل عمران: 75].

3- مما يجعل التعايش مع الآخر غير المسلم عسيرا على المؤمن:

اعتقاد المؤمن بأن الآخر مستحق لغضب الله ونقمته، فكيف يمكنني أن أقبل بوجوده أصلا في الحياة؛ لذلك فض القرآن هذا التشابك النفسي داخل نفسية المؤمن بأن جعل الحساب في الآخرة، لا الدنيا، يقول تعالى:

{وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [الحج: 68، 69].

وقال تعالى: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [الشورى: 15].

ويقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [الحج: 17].