عبد الرحمن مطر فشلت ثلاثة لقاءات دولية، في إيقاف الحملة العسكرية الدامية التي تشنها القوات الروسية والسورية، ضد المناطق الشمالية السورية، في ريفي إدلب وحماة، منذ ثلاثة أسابيع. تلك اللقاءات التي كان يمكن أن يلجم أحدها اندفاعة الموت المحموم تجاه المدنيين، لكن غياب الإرادة الدولية يحول دون تحقيق أي نتائج، ولا يتصل الأمر بجلسة مجلس الأمن الدولي الخاصة بالوضع في إدلب، أو المباحثات التركية الأميركية، أو لقاء سوتشي بين وزيري الخارجية الأميركي والروسي، لكنه ينسحب على مجمل اللقاءات الأخرى، بما فيها قمة بوتين – اردوغان. هذا يوضّح تمامًا أن وقف العمليات العسكرية ليس واردًا بالمطلق اليوم، وأن الاتفاق على استمراره هو الحقيقة الوحيدة، إلى جانب الضحايا والمهجرين والدمار المهول. السؤال الذي يمكن إثارته لن يجد جوابًا مفيدًا: هل الوضع في إدلب عصيّ على إمكان التوصل إلى حل، أو تسوية ما بشأنه، بعد كل ما مرّت به المنطقة من أحداث وكوارث ومجازر؟ بالنسبة إلي، ثمة إيمان مطلق بأن الأطراف المتدخلة في سورية تتصارع فيما بينها على سحب البساط، كلٌ إلى ناحيته، فمعركة إدلب اليوم، باعتبارها المنطقة الأخيرة التي ما تزال عصيّة على الإخضاع، قد تحدد موقع كل طرف على الأرض، ومدى تحقق مصالحه وغاياته الاستراتيجية. راهنية المشهد وتطوراته تشير إلى انعدام أي توّجه لإنهاء القيامة الدامية، وعلى الرغم من شدة العمليات العسكرية الجوية وكثافة المواد التدميرة والنتائج المخيفة، من حيث الأهداف والضحايا المدنيين. لم تصدر حتى الآن أي إدانة واضحة ذات تأثير يذكر، للجرائم التي يرتكبها المعتدون. بل على العكس من ذلك، أعلنت الولايات المتحدة أنها على علم مسبق بالحملة، وهذا مؤشر إلى تفهم واشنطن، وقبولها لما تقوم به القوات الروسية، وبالطبع الأسدية، في ريفي إدلب وحماة. وهذا من شأنه أن يمنح الجريمة تغطية دولية، ما تزال مستمرة، على الرغم من بشاعة المجازر، وتوفر أدلة على الاستخدام المنظم للسلاح المحرم دوليًا، واستهداف المدنيين. منذ معركة حلب، لم تقم القوات الروسية – الأسدية، بحملة دامية، كالتي تجري اليوم، منذ نيسان/ أبريل الماضي، وإن كانت الضربات الجوية لم تتوقف بشكل شبه يومي، في مناطق مختلفة، على الرغم من اتفاق وقف التصعيد الذي أبرمته أطراف أستانا قبل عامين (أيار/ مايو 2017). قادت الحملة على حلب إلى خسارة فادحة، شكلت نقطة ارتكاز لاستعادة المناطق التي تحررت من سيطرة النظام الأسدي، كما أحدثت انعطافة مهمة في تاريخ الثورة السورية، تبعتها معركة درعا، واليوم إدلب. الاستراتيجية العدوانية الروسية تستهدف استعادة جميع المناطق، ومن ثم الذهاب إلى التسوية السياسية، التي تدحرجت بنودها من الأمم المتحدة والقرار 2254، إلى حل روسي يقوم على استيعاب “الأطراف” في حكومة وطنية، تقوم على استمرار النظام الأسدي. لا شيء يثني الروس عن المضي في مشروعهم، وعلى الرغم من اعتراض البيت الأبيض، فإن شيئًا لا يغيّر أو يؤجل التدمير الروسي – الأسدي. يبقى موقف واشنطن المعلن شكليًا، ما لم يرتبط بإجراءات محددة، تتخذها الولايات المتحدة حيال سياسة موسكو العسكرية والسياسية في المشكلة السورية. إدارة ترامب ليست بحاجة إلى الوقوف على حقيقة محاربة الإرهاب التي تزعمها موسكو، وتجعل منها عنوانًا عريضًا يحدد أهداف الحملة على إدلب. تدرك الولايات المتحدة عدم صحة ما يتم الترويج له في هذا الشأن، ومع ذلك، فإن وسائل الإعلام الغربية، ومراكز صنع القرار وتوجيه الرأي العام، ما تزال تتحدث باقتضاب عن عمليات عسكرية روسية محدودة، ضد “جيوب أخيرة للمتمردين” في إدلب. لا يشكل هذا التوجه تضليلًا للرأي العام فحسب، وإنما قلبًا للحقائق، وتغييبًا للصورة الحقيقة لما يحدث من قتل وتدمير على نطاق واسع، من دون أن تحقق أي أهداف مباشرة بحق جبهة النصرة -على سبيل المثال- باعتبارها التنظيم الإرهابي الذي تسعى موسكو لتحرير المنطقة من سيطرتها. خلف الموقف الأميركي، الذي يسمح باستمرار القتل، خلافات بين روسيا والولايات المتحدة، وخلافات بين أنقرة وواشنطن: المنطقة الآمنة في الشمال أحد تجليّاتها. لا تريد الولايات المتحدة أن يحقق التفاهم الروسي التركي نتائج ملموسة على الأرض، لأن ذلك سوف ينعكس على مستقبل الشمال السوري الذي تسيطر عليه (قسد) بدعم أميركي، لأنها لا تريد التوصل إلى أي اتفاق مع تركيا يمكّنها من إنشاء منطقة آمنة شرق الفرات، وبصورة أخرى، أي تفاهم قد يؤدي إلى استقرار ما، لن يكون موضع ترحيب من قبل واشنطن، ولذلك فهي معنية مباشرة بتخريبه، والقيام بدور المتفرج. الإدارة الأميركية، كعادتها، تنتظر قليلًا لتتحكم أخيرًا. لم تعد هناك ضرورة للتذكير بأن هذه الحملة “تنتهك” الاتفاقات والتفاهمات والخطط المبرمة بشأن وقف التصعيد. ولكن ينبغي القول إن تلك الاتفاقات قد قادت بشكل طبيعي إلى الحملة العسكرية الدامية الراهنة، وإنها واحدة من أهم مخرجات مسار (أستانا – سوتشي) الذي جعلت منه موسكو بديلًا لأي خطة دولية للتسوية. ومنذ أولى التسويات والهدنات المحلية التي بدأها النظام الأسدي، بدعم روسي مباشر، وتبنّ فعّال من الأمم المتحدة، عبر دور السفير استيفان دي ميستورا، وبخاصة اتفاق هدنة حمص، كان واضحًا أن النظام أراد أن يجعل مناطق الشمال السوري “خاصة إدلب” تجمعًا للمقاتلين المرحّلين بموجب الاتفاقات، والمدنيين المرحلين إليها، ومن ثم يشنّ حربًا شاملة ضدهم، ومنذ بدء التدخل العسكري الروسي 2015، تحولت جميع المدن والبلدات السورية التي تسيطر عليها المعارضة، إلى جحيم مطلق: مناطق منكوبة محروقة. مرة أخرى، الصمت الدولي هو ما يمنح المجرمين ذريعة استمرار القيام بارتكاب المجازر، وهو مؤشر ليس على عدم المبالاة بما يتعرض له أكثر من ثلاثة ملايين مدني، فحسب، بل موافقة وقبول على ما يجري في سورية. ولو أنهم حقًا يستهدفون “خلايا إرهابية”، لكانوا قد أراحوا السوريين، من بطش جبهة النصرة وجبروتها وتسلطها. قادت معركة حلب إلى مفاوضات جنيف الرابعة، في شباط/ فبراير 2017، التي نجم عنها الانحراف الكبير في الرؤية الدولية للتسوية في سورية، نحو ما بات يُعرف بـ “السلال الأربع”. ومع ترديد إدارة ترامب القول بضرورة العودة إلى مسار التسوية السياسية، وفقًا للقرار الدولي 2254، نتساءل: هل تقود الحملة التدميرية على إدلب إلى إحياء المفاوضات الميتة؟! موقع: الحوار المتمدن