كانت السُّنة المطهرة –وما زالت- هدفاً للهجمات الشرسة من المستشرقين وبعض من انتسب للإسلام من تلاميذهم، ومن أخطر الشبهات التي أثاروها قديماً ويجددونها كل حين، زعمهم الاكتفاء بالقرآن الكريم والاستغناء عن السنة، وقد اتخذوا تلك الشبهة غطاءً ماكراً يُخفون وراءه غاية أخبث، وهي هدم الإسلام كله قرآناً وسنة، ولو أنهم صرَّحوا بغايتهم فلن يُصغي لهم أحد، فأخذوا يرددون هذه الشبهة، حتى إذا انطلت على المسلمين، تحقق لهم ما يبتغون، وهيهات. أخبر النبي صلى الله عليه وسلم -وهذا من دلائل نبوته- أنه سيأتي زمان تظهر فيه طائفة تزعم أنها تكتفي بالقرآن، حيث قال: «ألا إني أُوتيتُ الكتابَ ومثلَه معه، ألا يوشِكُ رَجُلٌ شَبعانُ على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وَجَدتُم فيه من حلالٍ فأَحِلُّوه، وما وجدتُم فيه من حرامٍ فحَرِّمُوه»(1)، وزاد ابن ماجة: «ألا وإن ما حرَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما حرَّم الله».

ومن ثَمَّ وجب أن نقذف بالحق على باطلهم، فنبرهن أنَّ القرآن والسنة صنوان لا ينفكان، وتوأمان لا يفترقان، وأنَّ الاستغناء عن السنة تعطيل للقرآن، وتقويض للإسلام، ولا غرو في ذلك؛ فالسنة وحيٌ من الله تعالى كالقرآن، قال تعالى: (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى {3} إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى {4}) (النجم)، إلَّا أنها لم تصل إِلى حد القرآن إعجازاً وإيجازاً؛ لأنها شرح له، والشرح أوضح وأبين من المشروح(2)، والسنة كذلك هي الحكمة التي أنزلها الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: (وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً {113}‏) (النساء)، قال الشافعي: «سمعتُ مَنْ أرْضى من أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمة سنة رسول الله»(3).

السنة بيان للقرآن

أَوْكَل الله تعالى مهمة بيان القرآن إلى رسوله صلى الله عليه وسلم حيث قال: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ {44}) (النحل)؛ فالسنة تُبيّن مُراد الله تعالى في القرآن، وصور ذلك:

1- تفصيل المجمل: جاءت في القرآن أحكام موجزة تحتاج تفسيراً لا يمكن فهم المراد بدونه؛ كالأمر بالصلاة في آيات كثيرة، إذ جاء مجملاً؛ فلم يُبيّن القرآن تفاصيل الصلاة كمواقيتها وأركانها وشروطها وعدد ركعاتها ومبطلاتها وبقية تفاصيلها، وإنما الذي بيَّن ذلك كله هو السنة القولية والعملية، وعلى غرار الصلاة بيَّنت السنة تفاصيل العبادات من الزكاة والصيام والحج، كما أنها فصَّلت شؤون الأسرة والمعاملات وغير ذلك من فروع الشريعة.

2- تخصيص العام: وردت في القرآن آياتٌ عامة، فجاءت السنة وبيَّنت أنَّ مراد الله تعالى في هذه الآيات أحكامٌ خاصة، كقوله تعالى: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ {82}) (الأنعام)، فلما نزلت هذه الآية وجِلَ الصحابة وشَقَّ ذلك عليهم، وقالوا: أَيُّنَا لا يظلم نفسه؟ فبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن مراد الله تعالى ظلمٌ مخصوص وهو الشرك، وليس عموم الظلم(4).

3- تقييد المطلق: كما في قوله تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ {38}) (المائدة)، فكلمة «اليد» في الآية مطلقة، وتشمل من أول الأصابع حتى المنكب، فمن أيّ موضعٍ يكون القطع بعد استيفاء الشروط؟ أَمِنْ أصول الأصابع، أم من مفصل الكف، أم المرفق، أم المنكب؟ لم تُبيّن الآية أيَّ ذلك هو المقصود، فلما جاءت السنة بيَّنت مراد الله تعالى، وقيَّدت هذا الإطلاق؛ حيث أُتي بسارق إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمر بقطعه من المفصل(5).

4- توضيح الـمُشكِل: من مهام السنة توضيح ما أَشْكل في فهم بعض ألفاظ القرآن، كبيان السنة للمراد من الخيط الأسود والخيط الأبيض في قوله تعالى: (وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) (البقرة: 187)، إذ بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن المقصود سواد الليل، وبياض النهار(6).

السنة تُشرّع كالقرآن

السنة تُشرّع أحكاماً لم يأتِ الأمر الصريح بها في القرآن، كوجوب زكاة الفطر؛ فالذي أوجبها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: «فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعيرٍ على العبد والحر، والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين»(7). وحَرَّمت السنة أشياء كثيرة سكت عنها القرآن، كتحريم كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير(8)، وتحريم نكاح المرأة على عمتها أو خالتها(9)، والنهي عن تَلَقّي الرُكبان، وأن يبيع حاضرٌ لبادٍ، أو يخطب الرجل على خِطبة أخيه، أو يبيع على بيعه(10)، وغير ذلك من فروع الدين. بل إن هناك مجالات –كالمواريث- فصَّلها القرآن تفصيلاً، ومع ذلك أبقى أشياء بيَّنتها السنة، كميراث الجَدَّة إذ قضى لها النبي صلى الله عليه وسلم بالسدس(11).

حجية السنة

عالج القرآن حجية السنة في آيات كثيرة؛ لأنها من أصول الدين وأسس الاعتقاد، فجاءت الآيات القاطعة تُلزم باتباع النبي صلى الله عليه وسلم، ونَفَت الإيمان عمَّن لا يتحاكم إلى الرسول صلى الله عليه سلم ولا يرضى بحكمه، كما في قوله تعالى: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً {65}) (النساء)، وتوعَّد الله تعالى المخالفين للنبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً {115}) (النساء)، ومن أعظم المشاققة للرسول صلى الله عليه وسلم الإعراض عن سُنته، ولذا فإنَّ مَن ترك السنة وادعى الاقتصار على القرآن فإنه مُكذّب للقرآن نفسه؛ لأن القرآن أوجب اتباع السنة.

وقد أجمعت الأمة من لدن الصحابة إلى يومنا على الاحتجاج بالسنة، وأنها مصدرٌ لتشريع الأحكام العقدية والأخلاقية والعملية، ولم يُمار في ذلك إلا مَن لا يُعتدُّ بخروجهم عن الإجماع كبعض الخوارج والروافض، ونقل هذا الإجماع كثيرٌ من العلماء كالشافعي، وابن حزم، وابن تيمية، والشوكاني، وغيرهم(12). ومن ثَمَّ، فإن المروّجين لهذه الشبهة يقذفون بأنفسهم في هُوَّة سحيقة من الضلال، يقول أيوب السختياني: «إذا حدثتَ الرجل بالسنة، فقال: دَعْنَا من هذا، وحَدّثْنَا من القرآن؛ فاعلم أنه ضالٌّ مُضلّ»(13)، ويقول ابن حزم: «لو أن امرأً قال لا نأخذ إلا ما وجدنا في القرآن لكان كافراً بإجماع الأمة»(14). إن وجوب الاحتجاج بالسنة من قطعيات الدين وبدهياته الأولى، ومن يدرك معالم العلاقة بين القرآن والسنة يوقن أنه يستحيل العمل بالقرآن الكريم وحده، وأنه لا يغني أحدهما عن الآخر، ولذا ستظل شبهة الاستغناء عن السنة صيحة في وادٍ، ونفخة في رماد.

________________________________________

الهوامش

(1) أبو داود (4604)، واللفظ له، والترمذي (2664)، وحسَّنه، وابن ماجه (12).

(2) مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة للسيوطي ص43، الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، ط. الثالثة.

(3) الرسالة للشافعي ص78، مكتبه الحلبي، مصر، ط. الأولى.

(4) البخاري (3429) ومسلم (124).

(5) الدارقطني (3466).

(6) البخاري (1916)، ومسلم (1090).

(7) البخاري (1503)، ومسلم (984).

(8) مسلم (1934).

(9) البخاري (5108)، ومسلم (1408).

(10) البخاري (2150)، ومسلم (1413).

(11) أبو داود (2894)، الترمذي (2101)، وقال: حسن صحيح.

(12) الأم للشافعي (7/287)، دار المعرفة، بيروت، رفع الملام لابن تيمية ص9، الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية، الرياض، إرشاد الفحول للشوكاني (1/97)، دار الكتاب العربي، ط. الأولى.

(13) الكفاية للخطيب البغدادي ص16، المكتبة العلمية، المدينة المنورة.

(14) الإحكام لابن حزم (2/80)، دار الآفاق الجديدة، بيروت، وراجع: مفتاح الجنة ص5.