سُئل الإمام الشافعي رحمه الله: أيهما أفضل للرجل أن يُمكّن أو يُبتلى؟ فقال: ” لا يُمكّن حتى يُبتلى “. وكنت ولا زلت أرفض خطاب الابتلاء والمحنة عندما يحوله البعض إلى مشجب لتعليق الأخطاء، فكلما تعثرت خطوات العاملين وقصّروا في اجتراح أسباب النهوض؛ أرجعوا الملامة على الأقدار، واتكأوا على سنة الابتلاء، وتناسوا قوله تعالى: (قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ) آل عمران: 165.                                               وعاجز الرأي مضياع لفرصته          حتى إذا فات أمر عاتب القدرا

إلا أن اللبث طويلاً مع آيات الابتلاء تكشف للمرء أن ثمت مواسم في حركة الحياة تنفد فيها الأسباب، وينقطع الأمل، وتتلاشى خيارات النجاح، فتتعلق القلوب برحمة الله إذ لا عاصم إذ ذاك إلا من رحم، وكلما سكنت النفوس، واشرأبت الأعناق إلى رحمة الله؛ كلما كان الغيث الإلهي سريعاً.

موسى على حافة البحر

حشد موسى – عليه السلام – في معركة التحرير ( تحرير بني إسرائيل من عبودية فرعون) حزمة متكاملة من الخطط والأسباب، فقد أقام الحجة على فرعون وملأه، وظل سنوات يناشده السماح لبني إسرائيل بالخروج، وتحوّلت قصة بني إسرائيل إلى قضية رأى عام، تعاطف معها بعض الفراعنة الذين آمنوا بنبوة موسى وعدالة قضيته، فلما آيس من فرعون، تسلل مع بني إسرائيل في ليلة ظلماء، ومعهم الدليل الخرّيت، لتصدمهم المفاجأة: البحر من أمامهم، والعدو من خلفهم، عندها نطق أصحابه بلهجة الواثق من الهزيمة اللّوام على قيادة التغيير: (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) ونطقوها بصيغة التوكيد، لأن الحسابات العقلية لا تقول غير ذلك.

فجاء رد المؤمن القوي الواثق بربه ليذكرهم بأهم عنصر تجاهلوه في معادلة النصر= الثقة بالله: (كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ). نفيٌ للحسابات الخاطئة التي توهمها بنو إسرائيل، وتوكيدٌ بمعية الله التي لا تخذل عباده. وعندها تنزّل النصر، ليكون نصراً سماوياً بحتاً، لا فضل فيه لأسبابهم التي اقترفوها، ليكون الفضل لله أولاً وأخيراً (وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ) البقرة:50. فالله وحده هو الذي نجّاهم، وحسبها من آية لو كانوا يعقلون.

على شفير الغار

من أعجب الخطط وأكثرها دقة تلك التي حبكها النبي صلى الله عليه وسلم في هجرته إلى المدينة، وأعقد ما في الخطة اختياره لغار ثور في اتجاه اليمن (عكس المدينة)،وفي جبل مرتفع ونآءٍ وبعيد عن تفكير قريش، لكن الأقدار سحبت رجالات قريش إلى نفس المكان، هنالك تفاجئ أبو بكر الصديق فهمس في أذن النبي: ( لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا) “صحيح البخاري” ، حينها تبسم النبي وفهم الرسالة الربانية الكامنة في مجيئ القرشيين، فقال لأبي بكر: (ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما). لقد أدرك لتوه أن عناية الله ورحمة الله هي الحاسم في حمايته، وأن جهوده تبخرت في لحظة واحدة، وما ثم إلا عبودية واحدة ستنقذ الموقف = “الثقة بالله”؛ فكان التجسيد الأمثل لها صلوات ربي وسلامه عليه.

صلاح الدين الأيوبي على درب الصبر

ومن طريف القصص ما روي عن القائد صلاح الدين الأيوبي إذ أدى انتصاره على الصليبين في حطين إلى تأجيج ثورة مضادة في عموم أوروبا، قرر إثرها ملوك أوروبا إطلاق حملة صليبية ضخمة كي تلتهم الشرق، وكان أقواها جيش الألمان بقيادة “فريدريك بارباروسا”. تناهت إلى مسامع صلاح الدين تلك الأنباء، فبادر إلى عقد الصلح مع الصليبين في الساحل، لكن العاصفة كانت أكبر من مساعي صلاح الدين، فشعورهم بالتفوق جعلهم يعدون العدة لاجتياح الشام برمتها، فرد على تهديدهم بلهجة الواثق من ربه وحرض المؤمنين على الثبات، وما هي إلا أيام يسيرة حتى بلغته وفاة ملك الألمان فخر لله ساجداً، وعندها تجاوب الصليبيون لمساعي التهدئة.

يجد المتأمل في مسيرة الحياة عشرات القصص تتكرر، حيث يُحكم المخططون حبك الخطط، وتشييد الأسباب، وسد الثغرات، وتجهيز البدائل، ثم تحدث ثغرة فينهار المخطط برمته، فيعتصم الناس بالصبر والثقة بالله حتى يأتي المدد الرباني، فيخرجون بعد ذلك مهللين مكبرين يعزون النصر لواهبه الحقيقي جل في علاه. ونحن هنا لا نحرّض على انتظار المفاجئات فما ذاك مبتغانا، ولكنها دعوة للتأمل في سنن الله، وكيف أن قوة الإنسان تكمن في عجزه أحياناً، فيأتيه الفرَج، وكان أحد العارفين يقول: ( كنزي عجزي) وهو استلهام موفق لقوله تعالى : (حَتّى إِذَا استَيأَسَ الرُّسُلُ وَظَنّوا أَنَّهُم قَد كُذِبوا جاءَهُم نَصرُنا فَنُجِّيَ مَن نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأسُنا عَنِ القَومِ المُجرِمينَ) يوسف: 110. ففي لحظة الاستئياس، ينخلع القلب عن الأسباب، ويجثوا بين يدي الله منتظراً الفرج (مَتَى نَصْرُ اللَّـهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّـهِ قَرِيبٌ).

إن ظاهرة جلد الذات، والتشغيب على ربان السفينة، والبكاء على اللبن المسكوب، لا تفيد في مثل هذه المراحل، بل الواجب يُملي علينا أن نقيّم الخطوات السابقة بكل عمق وتجرد بغرض الاستفادة من الأخطاء، ثم ندأب في سبر المخارج المتيسّرة، مع سكينة إيمانية يزداد منسوبها كلما تعلقت القلوب برحمة الله، ودعاء كدعاء الغريق، يتبرأ به المرء من حوله وقوته مرتمياً في حول الله وقوته. فمنعطف (سكون الأسباب) وتلاشي الخطط مهم ومحوري في تربية الشعوب، حتى إذا ما تجاوزت ذلك المنعطف؛ أيقنت أن الله وحده هو الذي لطف بها، وهيأ لها أسباباً لم تكن في حسبانها، وعندها يهتف الشعب بإيمان عميق: ” وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّـهِ”.