فرح المؤمنين بآية واحدة يتعلمونها من كتاب الله أكثر من فرحهم بامتلاك حمر النعم والذهب والفضة

الصلاة تتصدر بعد الشهادتين أعلى درجات الفرح اليومي حين يناجي المسلم ربه خاشعاً وينعم بالمعية الربانية

أفراح القلوب المؤمنة تتوالى كل عام مع حلول رمضان وما فيه من نفحات الصيام والقرآن والثواب المضاعف

المؤمن يفرح في حجه بالقدوم على الله ضيفاً في بيته المحرم وبأخوّة الإسلام بشتى بقاع الأرض إنها محطات الفرح الحقيقي الذي يشرح الصدور ويريح النفوس ويُقوّي القلوب، الفرح الممتد الخالد المصاحب للمؤمنين في الدنيا والآخرة، ولِمَ لا يفرحون وقد أنارت قلوبهم بأنوار الطاعة لله سبحانه وتعالى، وازدانت نفوسهم بفيض هدايته وجميل إحسانه؟!

وأفراح المؤمنين مميزة، إنها ليست كفرح قارون الذي نهاه قومه عنه فقالوا له: (لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ {76}) (القصص)، ولا كفرح أهل الدنيا بدنياهم حين تتزين لهم، وقد قال الله فيها وفيهم: (وَفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ {26}) (الرعد)، ولا هو فرح المنافقين بالفرار من الله ورسوله حين قعدوا وتخلفوا عن ركب المؤمنين فاستحقوا الذم إلى يوم الدين: (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ) (التوبة: 81)، كما أنه ليس فرح أهل الباطل بباطلهم حين يعلو حيناً وينتفش، فلسوف يزول! وسيقال لهم: (ذَلِكُم بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ {75}) (غافر)، وليس بفرح مَن يبطر نعمة ربه عليه ويفخر بها ويتعالى على عباد الله غافلاً عن شكرها وتزكيتها، وقد قال الله فيه: (وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاء بَعْدَ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ {10}) (هود)، فما الذي ميز أفراح المؤمنين حتى إنهم يحمدون عليها ويؤجرون؟!

إن هذا الفرح المحمود الذي يفرحه المؤمنون هو الفرح الحق الذي يرضاه الله عز وجل لعباده، ويثيبهم عليه، ويدعوهم إليه فيقول: (قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ {58}) (يونس)، قال ابن عباس رضي الله عنهما: «فضل الله القرآن، ورحمته الإسلام»، وعنهما أيضاً: «فضل الله القرآن، ورحمته أن جعلكم من أهله» (االقرطبي)، فالحمد لله على أعظم النعم؛ الهداية للإسلام، والإرشاد بالقرآن، وهذا هو أحق ما يفرح به المؤمنون وما يجعلهم يفرحون بآية واحدة يتعلمونها من كتاب الله أكثر من فرحتهم بامتلاك حمر النعم، أو قناطير الذهب والفضة! قال ابن عاشور: «وهذا الفضل أخروي ودنيوي، أما الأخروي فظاهر، وأما الدنيوي فلأن كمال النفس وصحة الاعتقاد وتطلع النفس إلى الكمالات وإقبالها على الأعمال الصالحة تكسب الراحة في الدنيا وعيشة هنيئة».

أفراح الطاعة في حياة المسلم:

إن أفراح الطاعة لتطل بوجهها الطيب على المسلم في سنوات عمره طال أم قصر، وإن نسماتها لتهب على وجه قلبه كل يوم، وكل ساعة ولحظة، بل في كل نفَس يتنفسه ذاكراً فيه ربه عز وجل، وما أعظم هذه الأفراح حين تتعانق مع مواسم الخير فتضيف فرحاً إلى فرح، وتضم طاعة إلى طاعة، وفضلاً مع فضل، كما في هذا الشهر المبارك؛ رمضان، الذي يكون فيه «للصائم فرحتان يفرحهما، إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه»، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.

وتبدأ أفراح المسلم مع الطاعات بركن الإسلام الأعظم وبابه الأكبر الذي يصير به المرء مسلماً؛ الشهادتين، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، أيّ فضلٍ يُفرح به أعظم من دخول هذا الإنسان من هذا الباب، باب العبودية والنجاة، ليكون من عباد الله المسلمين المؤمنين، ويشرف بهذه العبودية للملك الحق القوي سبحانه وتعالى، فيعزّ العبد من بعد ذل، ويقوَى من بعد ضعف، ويدخل في رحاب الأنس به والرضا عنه، ويفتح له هذا الباب أبواب الخير كلها التي تأتي بأفراح الروح! وكما قال ابن القيم، رحمه الله: «في القلب شعث، لا يلمه إلا الإقبال على الله، وفيه وحشة، لا يزيلها إلا الأنس به في خلوته، وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفته وصدق معاملته، وفيه قلق لا يسكنه إلا الاجتماع عليه، والفرار منه إليه، وفيه نيران حسرات لا يطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه وقضائه، ومعانقة الصبر على ذلك إلى وقت لقائه، وفيه طلب شديد لا يقف دون أن يكون هو وحده مطلوبه، وفيه فاقة لا يسدها إلا محبته، والإنابة إليه، ودوام ذكره، وصدق الإخلاص له، ولو أعطي الدنيا وما فيها لم تسد تلك الفاقة منه أبداً»! (مدارج السالكين).

الفرح اليومي مع فريضة الصلاة:

وتأتي سلسلة الأفراح كعقد منتظم الحبّات في بقية أركان الإسلام، فتتصدر الصلاة بعد الشهادتين أعلى درجات الفرح اليومي، حين يناجي المسلم ربه ويقف بين يديه مصلياً خاشعاً؛ فتهدأ روحه وتسكن نفسه وينعم بالمعية الربانية، وتتوالى الأفراح على قلبه حين تذهب الصلاة بذنبه فتكفّره، كما أكد ربنا سبحانه: (} وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ {114}) (هود)، وكما بشر نبينا صلى الله عليه وسلم: «ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة، فيحسن وضوءها، وخشوعها، وركوعها، إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب، ما لم يأتِ كبيرة، وذلك الدهر كلّه» (رواه مسلم)، وحين ترتفع الصلاة بنفسه فتزكيها؛ (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ) (العنكبوت: 45)، وحين تكون سبباً في تفريج همه وذهاب غمه؛ (وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ {45}) (البقرة)، ثم حين تكون حصن النجاة له في الآخرة؛ «من حافظ عليها كانت له نوراً وبرهاناً ونجاة يوم القيامة» (رواه أحمد).

فرح التزكية بالزكاة:

أما الزكاة فلا يخلو إخراجها من فرح، ففيها زكاة النفس وطهارتها؛ (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا) (التوبة: 103)، يفرح المؤمن بأدائها طاعة لربه، ويفرح حين يجد نعمة الله عليه وقد منّ عليه بالعطاء، وجعله سبباً لإغناء إخوانه وانتشالهم بها من ذل الحاجة والعوز، يفرح حين يتصدق فيطعم مسكيناً، ويكسو عارياً، ويؤوي مشرداً، أو يكفل يتيماً ويغني فقيراً، أو ينشئ عملاً لعاطل، يفرح لفرح أخيه حين يفرح بالعطية التي فرّج بها كربه، أما أجره في الآخرة فهو بها أشد فرحاً، وقد قال رسولنا صلى الله عليه وسلم: «الصَّدقةُ تُطفئُ غضَبَ الرَّبِّ وتدفَعُ مِيتةَ السُّوءِ» (صحيح ابن حبان)، وقال: «إنَّ الصدقةَ لتُطفئُ عن أهلِها حرَّ القبورِ، وإنما يستظلُّ المؤمنُ يومَ القيامةِ في ظِلِّ صدقتِه» (السلسلة الصحيحة).

رمضان شهر الأفراح:

وتتوالى أفراح القلوب المؤمنة كل عام مع حلول شهر رمضان، وما فيه من نفحات مفرحة، فيفرح المؤمن فيه بفضل الله عليه وعونه له على الصيام وتمام نعمته بعطاياه العظيمة، فيفرح بشهر القرآن، والثواب المضاعف لصيامه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كل عملِ ابنِ آدمَ يُضاعفُ الحسنةَ عشرةَ أمثالها إلى سبعمائةِ ضعفٍ، قال اللهُ عزَّ وجلَّ: إلا الصومُ، فإنَّهُ لي وأنا أجزي بهِ، يَدَعُ شهوتَه وطعامَه من أجلي» (متفق عليه). ويفرح بمغفرة الله له حين صام، قال صلى الله عليه وسلم: «مَن صامَ رمضانَ إيماناً واحتساباً، غُفِرَ لَهُ ما تقدَّمَ من ذنبِهِ» (رواه البخاري)، ويفرح بها إذا قام: «مَن قامَ شَهْرَ رمضانَ إيماناً واحتِساباً، غُفِرَ لَهُ ما تقدَّمَ مِن ذنبِهِ» (صحيح النسائي)، ويفرح بليلة القدر وأجره المضاعف فيها؛ (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ {3}) (القدر)، فيخرج من شهره وقد زاد قرباً من الله.

ثم هو يفرح بشفاعة الصيام والقرآن له، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «الصِّيامُ والقرآنُ يشفَعانِ للعبدِ يومَ القيامةِ يقولُ الصِّيامُ أي ربِّ منعتُهُ الطَّعامَ والشَّهواتِ بالنَّهارِ فشفِّعني فيهِ ويقولُ القرآنُ منعتُهُ النَّومَ باللَّيلِ فشفِّعني فيهِ قالَ فَيشفَّعانِ» (رواه أحمد). ويفرح حين يتم صيام الشهر كله فيحل يوم فطره عيداً عليه مكافأة وجائزة من الله تعالى. أما حج بيت الله الحرام لأداء الركن الخامس من أركان الإسلام ففيه فرح بتلبية النداء؛ لبيك اللهم لبيك، فالمؤمن يفرح في حجه بالقدوم على الله وافداً وضيفاً في بيته المحرم، ويفرح بأخوّة الإسلام التي تجمعه مع غيره من إخوانه في شتى بقاع الأرض، يفرح بأداء المناسك طاعة لله، وبالوقوف بعرفة وقبول الدعاء، ويفرح بحط الأثقال والذنوب عنه؛ «من أتى هذا البيتَ فلم يرفث ولم يفسقْ، رجع كما ولدتْه أمُّه» (رواه مسلم)، فيرجع براً طاهراً، وجزاؤه الأوفى والأكبر ينتظره عند ربه؛ «الحجُّ المبرورٌ ليس له جزاءٌ إلا الجنةَ» (رواه البخاري).

تقرب إلى الله تعالى بالفرح بفضله:

نعم أيها المسلم، افرح بفضل الله عليه كلما ساق إليك خيراً يزدك به إيماناً وصلاحاً، واسجد واقترب، افرح بفضل الله عليك حين يهديك لفعل الخيرات وترك المنكرات واعمل ولا تتوقف، وتذكر دائماً قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا سرَّتك حسنتُك، وساءتْك سيئتُك فأنت مؤمنٌ» (السلسلة الصحيحة)، وكن من المؤمنين.