هناك حقيقتان ارتبطتا بظهور الإنسان؛ «الأداة الأولى»، و«العبادة الأولى»، ولعل الأداة كانت عبارة عن قطعة من الخشب أو من الحجر مشكلة بطريقة غير مصقولة أو شظية من شظايا الطبيعة، لقد كانت صناعة الأدوات واستخدامها تمثل استمرارية للتطور البيولوجي، وهو تطور خارجي وكمي يمكن تتبعه من الأشكال البدائية للحياة.

وعندما استخدم الإنسان لأول مرة حجراً لكسر ثمرة جافة أو لضرب حيوان، فقد فعل شيئاً مهماً جداً، ولكنه ليس جديداً كل الجدة؛ لأن آباءه الأوائل قد حاولوا فعل الشيء نفسه، لكنه عندما وضع الحجر أمام عينيه ونظر إليه باعتباره رمزاً لروح، فإنه بذلك قد قام بعمل أصبح السمة العامة التي لازمت الإنسان في العالم كله، وهو أمر جديد تماماً في مجرى تطوره. وكذلك عندما قام الإنسان الأول مرة برسم خط حول ظله على الرمال، فإنه بهذا العمل قد رسم أول صورة، ومن ثم بدأ نشاطاً متفرداً اختص به من دون سائر الكائنات، فمن البديهي أن أي حيوان غير قادر على فعل هذا بصرف النظر عن درجته في سلم التطور، حاضراً أو مستقبلاً. إن الجوانب البيولوجية لظهور الإنسان يمكن تفسيرها بالتاريخ السابق، أما الجوانب الروحية فلا يمكن استنتاجها أو تفسيرها بأي شيء وجد قبله، فالإنسان هبط من عالم آخر مختلف. إن العبادة والأداة يمثلان طبيعتين وتاريخين للإنسان؛ تاريخ هو دراما إنسانية، وتبدأ من المرحلة التمهيدية لوجود الإنسان بالجنة، ثم تتطور خلال انتصار فكرة الحرية، وتنتهي بيوم الحساب في الآخرة، وهي الوازع الأخلاقي للتاريخ.

أما ثاني الأمور، فهو تاريخ الأشياء الذي ينتهي بالدخول في المجتمع الطبقي، وقصور الطاقة، شأنه في ذلك شأن بقية العالم المادي، إن هذين التاريخين لهما العلاقة نفسها التي بين العبادة والأداة، وهي العلاقة نفسها بين الثقافة والحضارة. انعكاس ازدواجية وهناك خلط غريب بين الثقافة والحضارة، فالثقافة تبدأ بالتمهيد السماوي، بما اشتمل عليه من دين، وفن، وأخلاق، وفلسفة، وستظل الثقافة تعنى بعلاقة الإنسان بتلك السماء التي هبط منها، فكل شيء في إطار الثقافة إما تأكيد أو رفض أو شك أو تأمل في ذكريات ذلك الأصل السماوي للإنسان. وتتميز «الثقافة» بهذا اللغز، وتستمر هكذا خلال الزمن في نضال مستمر لحل هذا اللغز.. أما «الحضارة» فهي استمرار للحياة الحيوانية ذات البعد الواحد، التبادل المادي بين الإنسان والطبيعة، هذا الجانب من الحياة يختلف عن الحيوان فقط في الدرجة والمستوى والتنظيم، ومن هنا لا نرى إنساناً مرتبكاً في مشكلاته الدينية أو مشكلة «هاملت» أو مشكلة الإخوة «كرامازوف»، وإنما هو عضو المجتمع الغفل، وظيفته أن يتعامل مع سلع الطبيعة، ويغير العالم بعمله وفقاً لاحتياجاته.

فن السيطرة الثقافة هي تأثير الدين على الإنسان، أو تأثير الإنسان على نفسه، بينما الحضارة هي تأثير الذكاء على الطبيعة أو العالم الخارجي، الثقافة معناها الفن، الذي يكون به الإنسان إنساناً، أما الحضارة فتعني فن العمل والسيطرة وصناعة الأشياء صناعة دقيقة. الثقافة هي الخلق المستمر للذات، أما الحضارة فهي التغيير المستمر للعالم، وهذا هو تضاد، الإنسان والشيء، الإنسانية والشيئية.

الدين والعقائد والدراما والشعر والألعاب والفنون الشعبية والقصص الشعبية والأساطير والأخلاق والجمال، وعناصر الحياة السياسية والقانونية التي تؤكد قيم الشخصية والحرية والتسامح والفلسفة والمسرح والمعارض والمتاحف والمكتبات، يمثل هذا كله الخط المتصل للثقافة الإنسانية الذي بدأ مشهده الأول في السماء بين الله تعالى والإنسان. تقدم بيولوجي والحضارة هي استمرار للتقدم التقني لا الروحي، والتطور «الدارويني»، واستمرار للتقدم البيولوجي لا التقدم الإنساني، وتمثل الحضارة تطور القوى الكامنة التي وجدت في آبائنا الأوائل الذين كانوا أقل درجة من مراحل التطور.

إنها استمرار للعناصر الآلية، أي العناصر غير الواعية التي لا معنى لها في وجودنا، ولذا فإن الحضارة ليست في ذاتها خيراً ولا شراً، وعلى الإنسان أن يبني الحضارة تماماً كما أن عليه أن يتنفس ويأكل، إنها تعبير عن الضرورة وعن النقص في حريتنا، أما الثقافة فعلى العكس من ذلك؛ هي الشعور الأبدي بالاختيار والتعبير عن حرية الإنسان. ضرورات جديدة والحضارة في خلقها الدائم لضرورات جديدة وقدرتها على فرض الحاجة على من لا حاجة له، تعزز التبادل المادي بين الإنسان وبين الطبيعة وتغري الإنسان بالحياة المظهرية (البرانية) على مقولة «أنتج لتربح واربح لتبدد»، هذه سمة في جبلة الحضارة..

أما الثقافة، وفقاً لطبيعتها الدينية، فتميل إلى التقليل من حاجيات الإنسان أو الحد من درجة إشباعها. وبهذه الطريقة توسع في آفاق الحرية الداخلية (الروحية) للإنسان، وهذا هو المعنى الحقيقي لأنواع كثيرة من التنسك وإنكار الذات عرفت في جميع الثقافات، منها ما يفترض شكلاً غامضاً من أشكال تكريس قلة النظافة كالتي نراها عند الرهبان وعند «الهيبز» على حد سواء، وعلى العكس حكمة الإسلام في كبح الرغبات، فإن الحضارة وهي محكومة بمنطق مضاد عليها أن ترفع شعاراً مضاداً، أطلق رغبات جديدة دائماً وأبداً.. حامل الثقافة هو الإنسان، وحامل الحضارة هو المجتمع، ومعنى الثقافة القوة الذاتية، التي تكتسب بالتنشئة، أما الحضارة فهي قوة على الطبيعة عن طريق العلم، فالعلم والتكنولوجيا والمدن والدول كلها تنتمي إلى الحضارة.

وسائل الحضارة هي الفكر واللغة والكتابة، وكل من الثقافة والحضارة ينتمي أحدهما للآخر، كما ينتمي عالم السماء إلى هذا العالم الدنيوي، أحدهما «دراما» والآخر «طوبيا». وينقل عن «تاسيروس» قوله: إن البرابرة كانوا يعاملون العبيد أفضل بكثير من الرومان، فلا يثير عجبنا في الحضارة الرومانية الحروب والسطو وقسوة الطبقات الحاكمة والجماهير الممسوخة والمكائد السياسية واضطهاد المخالفين، وألعاب المصارعة حتى الموت و«نيرون» و«كاليجولا»، وكل هذه الفظائع لا تثير عجبنا، ولكننا نعجب كم بقي بعد هذا من ثقافة في هذه الحضارة، إنها الروح «الهلينية» والذكاء الروماني، وهو الفارق بين الثقافة والحضارة. ويعطي الرومان انطباعاً بأنهم برابرة متحضرون، فروما هي النموذج لحضارة قوية محرومة من الثقافة، أما الثقافة الماوية فقد تكون هي النموذج المضاد طبقاً لما عرفناه عن الحياة عند الجرمانيين، والسلافيين القدامى يبدو أنهم كانوا على مستوى أرفع من الثقافة من الرومان. كذلك كان الهنود الحمر أكثر ثقافة من المستعمرين البيض، ويمثل عصر النهضة الأوروبية نموذجاً لهذه الظاهرة، فتلك الفترة الثقافية كانت أكثر الفترات إثارة في التاريخ الإنساني، ومع ذلك تعتبر تدهوراً من وجهة نظر الحضارة، فقد حدثت ثورة حقيقية في أوروبا إبان القرن الذي سبق عصر النهضة نتح عنها زيادة في الإنتاج والاستهلاك كما تحققت زيادة سكانية ملحوظة.