عبد الناصر بن عيسى هناك من يظن أن قرارات الزور والجبروت، أشبه بالقدر المحتوم، لا يجوز الثورة عليها ولا حتى مناقشتها، فلا يكاد ينوي مقاومتَها، فما بالك أن يجرؤ على إلغائها، وما حدث في تركيا من زمن العلمانية الأتاتوركية وفي غيرها من بلاد العالمين العربي والإسلامي، يؤكد أن الأنظمة وأحيانا الشعوب هي من تقبل الاستعباد، وكل الإمكانات والمقوِّمات بيدها لتقول ما تريد وتفعل أيضا ما تريد، خاصة على أرضها. لم تكن عودة الأتراك إلى أداء صلاة الجمعة في مسجد آيا صوفيا مجرَّد انتصار مكاني وزماني عابر، سينساه الناس مع مرور الأيام وتوالي الأحداث، بل إنه انتصارٌ كبير على النفس الخانعة التي عجزت عن مقاومة التعنُّت الذي تتميز به قوى الشر في العالم وتفتخر به. منذ أن سقطت القدس في أيدي الصهاينة بعد النكبة الكبرى وحربي 1948 و1967، وهي تتعرّض للتهويد من دون تردد ولا حياء من الإسرائيليين الذين لم يغيّروا من جغرافية وتاريخ بيت المقدس فقط، بل حوّلوا هويته من أولى القبلتين إلى عاصمة للدولة العبرية، التي لاقت المباركة من الكثير من الأنظمة التي ثارت الآن بعد استرجاع مسجد آيا صوفيا لنداء الصلاة والفلاح، فقد أقام الصهاينة ما لا يقل عن اثنتي عشرة مستوطنة في القدس، وطالت الاعتداءات والحفريات كل مواقع بيت المقدس، وتحوّل من مسجدٍ أسرى إليه رسول الإسلام- صلى الله عليه وسلم-، إلى مكان وطأته أقدام الإرهابي شارون في سنة 2000، إلى أن تهوّد المكان بالكامل، ولا يجرؤ مسلمون في بلدانهم على أن يستعيدوا مسجدا سلبه منهم أتباع الاستعمار. أبانت جائحة كورونا مشاعر وحقيقة الكثير من البلدان، واستغلَّها آخرون لتحقيق إنجازات سياسية وتاريخية واقتصادية وعلمية وحتى ثقافية كبيرة، وقد تكون “ضربة معلم” التي قامت بها تركيا، هي بداية لأجل أن ترفع الكثير من الدول الجور المسلط عليها، تحت طائلة الاتفاقات الدولية التي هي في الأصل جائرة، مثل العلاقات الديبلوماسية المبرمة مع إسرائيل التي تجمع الكيان بالكثير من الدول، وتجعلها تقع في حرج تاريخي كبير، عندما تقوم الدولة الصهيونية بالمجازر، وعلمها السداسي، يرفرف في القاهرة وإسطنبول وفي غيرهما من العواصم. في إسطنبول العشراتُ من المتاحف، مثل المتحف الإسلامي والطيران والشمع وإسطنبول البحري… وفي تركيا، أكثر من ثمانين ألف مسجد، وأكيد أن تحويل آيا صوفيا من متحف إلى مسجد لن يهزّ الثروة المتحفية في إسطنبول ولن ينعش الثروة المسجدية في تركيا، ولكن ما يسجِّله في الذاكرة وفي التاريخ من تحدّ لن يقلَّ أثرُه عن قرابة قرن من زور عاشته البلاد التي مازالت الفتاة المتحجِّبة فيها غير قادرة على دخول الجامعة للدراسة، من دون أن تكشف عن شعرها. قد لا يكون مُهمًّا أن تسترجع الحجارة قيمتها، وقد يكون الأجدر إعادة الهيبة للإنسان أوَّلا وأخيرا، ولكن علاقة الإنسان بالحجر قديمة وعميقة، وقد يتولى الحجرُ أحيانا ما عجز عنه الناس: “ثم قست قلوبُكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشدّ قسوة، وإن من الحجارة لمَا يتفجَّر منه الأنهار، وإن منها لما يشقَّق فيخرج منه الماء، وإن منها لما يهبط من خشية الله، وما الله بغافل عما تعملون”.