يرى الكاتب أن تدوين وكتابة الإمكانيات والأداءات الإيجابية للبشر على مدار حياتهم، يعد من أهم واجبات أهل العلم والقلم؛ لأن نتاج هذا العمل هو كنز من التجارب الإنسانية النقية التي تساعد الأجيال القادمة في طريق النمو والارتقاء. هذا التوجه لا يمهد الطريق لنشر الخير والفضائل الأخلاقية فحسب، بل يوجه المجتمع نحو ثقافة المراقبة والتأمل واقتفاء أثر الشخصيات البارزة. فتجارب العظماء وتصرفاتهم التي تبدو بسيطة لكنها عميقة، هي مصباح ينير درب الأجيال التي تلي؛ وهي الحقيقة ذاتها التي تتجلى في القصص القرآنية.

يقول الله تعالى:

{فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}

«فَٱقۡصُصِ ٱلۡقَصَصَ لَعَلَّهُمۡ يَتَفَكَّرُونَ» (الأعراف: 176).

وكذلك:

{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَـٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (يوسف: 111)

بمعنى أنَّ السير الذاتية الصادقة للسابقين هي علامات مضيئة لأصحاب العقول، وهي تنزل رحمةً وعظةً ويقظةً عميقة على قلوب أولئك الذين يسعون إلى الهداية. تشير هذه الآيات إلى أنَّ سرد التجارب الإنسانية، سواء كانت دينية أو اجتماعية، يحمل في جوهره رسالة عظيمة: رسالة نقل المعنى، ونمو الروح، وبناء الحضارة الداخلية للإنسان.

لكن في أيامنا هذه، أصبحت العناية بأداء وسيرة النماذج الحية ـ هؤلاء العظماء من الرجال والنساء الصامتين الذين يعيشون بيننا ـ ضرورة مضاعفة. ففي صخب وضجيج وسائل الإعلام، تظل الكثير من النماذج الحقيقية في صمت، وتتلاشى جمالية حياتهم في غبار النسيان. في حين أنَّ سرد قصص هؤلاء الأشخاص لا يخلق الأمل فحسب، بل يمكن أن يضاعف دورة الخيرات ويعيد بناء القيم الأخلاقية الأصيلة في نسيج المجتمع.

المصائب والأمراض، على الرغم من مرارتها وشدتها، هي بمثابة أتون (كُورة) في طريق الإنسان تصقل الروح. يفتح المرض نافذة جديدة على روح الإنسان؛ نافذة يرى من خلالها حقائق لم يكن بالإمكان رؤيتها أبدًا في الصحة والرخاء. الأمراض المستعصية، على شدة معاناتها، قد توصل الإنسان أحيانًا إلى مرتبة من النمو والبصيرة لا تستطيع أي تجربة أخرى بلوغها؛ وكأنَّ الله يختار واحدًا من بين آلاف البشر ليكتشف، من خلال طريق الصعاب، أسرارًا عظيمة ويكون قدوة للآخرين.

وسط هذا، يُعد الأخ سروش إسلامي‌نيا، الابن البار للأستاذ مظفر إسلامي‌نيا والسيدة شهين أحمدي ـ من عائلة أصيلة من ديار باوه والمقيمة في سنندج _ واحدًا من النماذج النادرة للصبر والجلد والأمل بين شباب هذه المنطقة. لسنوات عديدة وهو يتصارع مع مرض الساركوما العظمية (Osteosarcoma) النادر والشديد؛ مرض قاده في البداية إلى طريق العلاج الكيميائي الشاق، ثم بسبب التقدم الحتمي للمرض، أدى إلى بتر ساقه اليمنى بالكامل من منطقة الفخذ. ومع ذلك، لم تكن هذه نهاية القصة؛ فبعد فترة وجيزة، انتقل المرض إلى الرئتين (Metastasized) وعاد ليواجه جولة جديدة من العلاج.

لكن انتبه: قصة الأستاذ سروش ليست مجرد قصة معاناة؛ إنها قصة إنسان حوّل المعاناة إلى فرصة.

كثير من المرضى في مثل هذه الظروف، إذا لم يتقبلوا الواقع، فإنهم يفسدون، عن غير قصد، جو المنزل والأسرة. لكن الأستاذ سروش، على مدى أكثر من ست سنوات من الكفاح المتواصل ضد المرض، لم يزد أبدًا عبئًا على عائلته. هذا في الوقت الذي وقع فيه الألم والحزن الرئيسي على عاتق الأب والأم، وتظهر آثاره بوضوح على ملامحهما. ومع ذلك، لم يُسمع شكوى من لسان هذا الشاب، ولم يُظهر عجزًا لحظة واحدة؛ بل اعتبر هذا الطريق دائمًا «ابتلاءً إلهيًا» والحمد والثناء يجري على لسانه.

 والدُه الكريم، الأستاذ مظفر إسلامي‌نيا، قال مرارًا وتكرارًا بكل فخر إنَّ سروش كان منذ طفولته ممتلئًا بالرصانة والصبر. حتى في سنوات صغره عندما تعرض لكسر في يده، أظهر من الهدوء والجلد ما أدهش من حوله. واليوم، تشرق تلك الروح الطفولية العظيمة، في هيئة شاب ناضج ومؤمن، في مواجهة أصعب الظروف.

 كما قال أصدقاؤه والمقربون منه مرارًا إنَّ سروش، في أوج مرضه وألمه، كان يفكر في المحتاجين وذوي الدخل المحدود أكثر من تفكيره في نفسه، وكان يتابع بلا كلل لحل مشاكلهم المالية؛ وهو سلوك لا يصدر إلا عن روح طاهرة وتربية عميقة، وقلة من الناس يفعلون ذلك في هذا العمر.

 أما أحد أجمل تصرفاته وأكثرها تأثيرًا، فقد حدث عندما قرر الفريق الطبي بتر ساقه بعد خمس سنوات من العلاج الشاق. قام سروش، بناءً على نصيحة والده العزيز، بالوضوء قبل العملية؛ ليكون قد توضأ بآخر وضوء له في هذه الدنيا بنفس تلك الساق.

هذه الحركة، التي هي رمز لأدب الروح والعشق للطهارة المعنوية، هي حدث نادر ومليء بالدروس في زمن تلاشت فيه الكثير من القيم؛ وهي حادثة لو لم تُسجل، لكان ظلمًا لروح العصر.

 لكن العجب لا يتوقف هنا. قال سروش للكاتب:

«إذا كان مرضي ـ حتى بشدته وندرته ـ يمكن أن يسبب تقدمًا في العلم، فإنني أفتخر بأن الله اختارني لهذه القفزة العلمية.»

هل يمكن تصديق ذلك؟ شاب قضى ست سنوات في أشد ساحات المعاناة، فقد ساقه، وعاد ليواجه خبر تفاقم المرض، وهو على وشك علاج كيميائي جديد، ليس فقط ليس يائسًا، بل يرى المرض خدمة للعلم وخلق الله.

أمام هذه الروح العظيمة، يبقى القلم عاجزًا والقلب خجلًا. صدقوني لقد كتبت الجزء الأخير من هذا المقال بصعوبة؛ لأن كل جملة بدت أصغر من عظمة روح هذا الشاب.

في الختام، أهدي هذا البيت اللطيف من مولانا إلى الأخ سروش، وأسأل الله العظيم الشفاء العاجل له بكل جوارحي:

 «گر چه بیمارم، زِ رنجِ خویش خوشنودم هنوز

 زانکه درد دوست دارم، چون دوای جان خویش»

أي:

على الرغم من أنني مريض وأعاني،

إلا أنني سعيد وشاكر؛

لأن هذا الألم يقربني من الله، ويمتحن إيماني، ويصقل روحي؛

وهذه المعاناة هي لي بمثابة دواء للروح.

 

فرزاد وليدي - سنندج 1404/09/09 (2025/11/30)